رابط مقدس وغامض، هو ذاك الذي يشد التونسيين إلى تاريخ 25 جويلية. كيف لا وهو تاريخ إعلان الجمهورية التونسية، الذي بموجبه ألغي في العام 1957 النظام الملكي، وأسست تونس أول جمهورية في تاريخها، ووضعت ركائز نظام سياسي جديد بفضل نخبة تونسية مثقفة وملتزمة وواعية وشعب متشبّع بوطنيته ومتمسّك بحقه في تقرير مصيره؟
تلك الأحداث الحاسمة كانت ولا تزال من أبرز المحطات التاريخية التي عاشتها تونس وشعبها، فمنذ ذلك التاريخ تغير وجه البلاد ومشهدها السياسي، وشهدت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تحولات عميقة. وسار كل ذلك بالتوازي مع تغييرات ثقافية أفرزت تطور الأفكار والعقليات وبالتالي تطّور نمط عيش المجتمع.
ويوم 25 جويلية 1957 ليس مجرد تاريخ هام في قص ة هذا البلد الأفريقي المطل على البحر المتوسّط، بل هو حدث تاريخي مفصلي بعده لم تعد تونس كما كانت قبله. ومن هنا، ونظرًا لبعده التاريخي العميق يحتفي التونسيون سنويًا في هذا التاريخ بعيد الجمهورية.
وأي تاريخ أفضل من ذلك اليوم الذي صدر فيه إعلان الجمهورية موقعًا باسم رئيس المجلس القومي التأسيسي آنذاك جلولي فارس، لتنصيبه عيدًا خاصة أنه جاء بعد سنة ونصف من إعلان استقلال البلاد؟
كل كلمة أدرجت في ذلك الإعلان كانت تحمل همومًا استطاع الشعب أن يزيحها ويمتلئ بدلًا منها بأحلام وطموحات رسمت مستقبلًا مضيئًا لبلد حديث الاستقلال.
مقتضبًا، هكذا ورد نص إعلان الجمهورية ذات خميس من قصر باردو (مقر المجلس القومي التأسيسي آنذاك) على الساعة السادسة مساء. بضع كلمات بسيطة في الشكل لكنها عميقة في معانيها وقوية في مقاصدها وتداعياتها. استمدت هذه الكلمات أبعادها الرمزية من قوة النقاط التي أعلنت عنها وجاءت ضمن قرار واحد كبير.
وكانت ثالث نقاط القرار التاريخي العظيم، بعد "إلغاء النظام الملكي إلغاء تامًا" و"إعلان تونس دولة جمهورية"، الإعلان عن تكليف رئيس الحكومة في ذلك الوقت الحبيب بورقيبة بتولي مهام رئيس الدولة إلى حين دخول الدستور- الذي كان وقتها قيد الإنجاز- حيز التطبيق.
وقبل الوصول إلى تغيير نظام الحكم بإعلان الجمهورية، كانت هناك العديد من القرارات والتحركات التي اتخذت لتمهيد الطريق تدريجيًا نحو هذه اللحظة التاريخية الاستثنائية في تاريخ تونس والتي قادتها مكونات الحركة الوطنية على رأسها الحزب الحر الدستوري، ومن بين هذه التحركات الحاسمة تحجيم صلاحيات الباي واستبدال حرسه الخاص بقوة من الجيش الوطني.
ومنذ ذلك الحين، ظل عيد الجمهورية مرتبطًا حصريًا بتاريخ تغيير نظام الحكم في البلاد في ذهن التونسيين وفي رزنامة الأحداث التي عاشتها البلاد، لكن الأمور لم تستمر على حالها.
وتحوّل هذا التاريخ من عيد وذكرى سعيدة بالنسبة للتونسيين إلى أوقات صعبة وذكريات أليمة. والبداية كانت في العام 2013 عندما اغتيل في 25 جويلية من تلك السنة النائب في المجلس التأسيسي حينها محمد البراهمي برصاص الإرهاب الغادر أمام منزله وتحت أنظار عائلته.
كان ذلك الحدث الأليم ثاني اغتيال سياسي تكتوي بناره تونس، منذ الاستقلال، بعد اغتيال الزعيم اليساري البارز شكري بلعيد في 6 فيفري من نفس السنة.
وأحدث اغتيال البراهمي صدمة جديدة في نفوس التونسيين، فعصفت تداعياتها بالساحة السياسية. عندها، خرج الآلاف للتظاهر مندّدين بالاغتيال ومطالبين بمحاسبة المسؤولين عن تفشي الإرهاب في البلاد، ملقين باللوم على الترويكا الحاكمة في ذلك الوقت بقيادة حركة النهضة.
في تلك الفترة عرفت مناطق عديدة احتجاجات متواصلة أبرزها كان اعتصام الرحيل أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي بباردو، ما أدخل البلاد في أزمة سياسية حادة ازدادت تعقيدًا بسبب الأحداث الإرهابية في جبل الشعانبي. ولم تفكّ عقدة هذه الأزمة إلا بتنظيم حوار وطني هدأ الأوضاع بعض الشيء، وأنقذ تونس من الوقوع في مستنقع الفوضى مثلما حدث في مصر في تلك الفترة.
لم تنته أوقات الشدة المرتبطة بتاريخ 25 جويلية، عند تلك السنة المصيرية في تشكيل المشهد السياسي في البلاد. وفي نفس التاريخ من عام 2019، عاش التونسيون أوقاتًا أليمة عندما توفي رئيس البلاد حينذاك الباجبوري قايد السبسي، بعد تدهور وضعه الصحي. شيّع الراحل قايد السبسي في جنازة وطنية مهيبة مثلما لم يشيّع أي رئيس قبله. ونظمت البلاد انتخابات رئاسية سابقة لأوانها امتثالا لمقتضيات الدستور.
تداعيات وفاة الباجي قايد السبسي لم تكن أقلّ تأثيرا في المشهد السياسي في البلاد مقارنة بما خلفته سابقاتها من الأحداث التي وقعت في مثل هذا التاريخ.
وجاء 25 جويلية 2021 ليزيد ازدحام الأحداث في أجندة هذا اليوم، بتجميد الرئيس قيس سعيّد البرلمان ومنح نفسه صلاحيات واسعة بموجب مراسيم رئاسية. وهو الإعلان الذي أدخل تونس في نفق أزمة سياسية جديدة لا تبدو نهايته وشيكة. كما قلب قرار سعيّد كل الموازين وأربك قواعد اللعبة السياسية ما أثّر على المشهد العام وكل الفاعلين السياسيين في البلاد.
واليوم، تخطّ تونس في سجل تاريخها حدثا آخر يرتبط بـ25 جويلية هو الاستفتاء على الدستور الذي كتبه الرئيس سعيّد وأراده متمرّدًا على منظومة العشرية السابقة التي لطالما استهدفها منذ وصوله إلى الحكم.
وأوضح سعيّد أن رمزية هذا التاريخ هي السبب في اختياره موعدا لاستفتاء الشعب على دستور البلاد الجديد. وهو الاختيار الذي جعله هدفًا للانتقادات والاتهامات بمحاولة الاستيلاء على التواريخ الرمزية بالنسبة للتونسيين.
ومنذ 1957 إلى اليوم، بالنسبة لتونس لم يكن 25 جويلية مجرد يوم أو تاريخ يكتب على عجل ودون إطناب في كتب التاريخ ودروس السياسة، بل كان يمثّل- مع كلّ حدث يقع فيه- زلزالًا مدوّيًا يهز أركان البلاد ويفرض قواعده على حكوماتها وأوضاعها العامة ومجالات الحياة المختلفة.
لكلّ هذه الأسباب والأحداث والتداعيات والحيثيات المرتبطة بهذا التاريخ، يؤكّد 25 جويلية أنه يفيض رمزية وحسمًا ومستنهضا للكثير من الذكريات . ففي مثل هذا اليوم، فرح التونسيون وحلموا وحكموا وصدموا وحزنوا وبكوا واحتجوا وهم الآن يدلون بأصواتهم.