بإمكانكم قراءة الجزء الأول من هذا المقال هنا.
كرة القدم والمجتمع
لا يمكن أن يغيب عنّا أنّ كرة القدم من بين الرياضات الأكثر شعبيّة والأكثر تعبيرًا عن دينامية الجماعة من ثلاث زوايا: أوّلًا من خلال مجموعة اللاعبين في الفريق الواحد والعلاقة التي تنشأ بينهم، وأيضًا من خلال تكتّل الجماهير وتحولهم إلى جمهور واحد دفاعًا عن راية البلاد، وثالثًا من خلال العلاقة الوجدانية التي تبنى بين اللاعبين والجمهور. فيتحوّل اللاعبين إلى حاملي طموح المتفرّجين ويصبح وكأنّ النجاج ليس نجاحًا لفريق أو لوطن وانما أيضًا نجاحًا مشخصنًا لكلّ فرد داخل كل مجموعة من هذه المجموعات الثّلاث.
نذكر أنّ اليونيسف ومنذ 2016 -وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا- وبهدف تعزيز التكامل بين المراهقين اللبنانيين والمراهقين السوريين النازحين إلى لبنان، أطلقوا مشروع "كرة ا لقدم والتماسك الاجتماعي". تمكّن هذا المشروع، كما جاء في بيان اليونيسف آنذاك، من إعطاء فرصة لـ3600 طفل من اللاجئين والمجتمعات المضيفة للعب كرة القدم وتطوير المهارات الحياتية من خلال ممارسة الرياضة بهدف تعزيز قيم التعاون والعمل الجماعي. وتم تنظيم مهرجان كرة القدم وصرحت حينها تانيا شابويزا ممثلة اليونيسف فى لبنان: "لا ينبغي الاستهانة بأثر تعزيز التلاحم بين المراهقين من مختلف المجتمعات في لبنان، إنه أمر بغاية الأهمية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لبلد ينشط فيه المراهقين".
تم إنشاء "مشروع كرة القدم والتماسك الاجتماعي" في البداية من قبل حكومة المانيا بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم العالي مع اليونيسف للاستجابة للأثر المدمر للأزمة السورية على المراهقين في لبنان.
وفي دراسة حول "أثر التماسك الاجتماعي على الأداء الرياضي عند لاعبي كرة القدم لمولى ماحي مراد، تبيّن أن التفوق الرياضي يرتبط بمدى التماسك الرياضي، أي أنّ العلاقة موجودة بين التماسك الاجتماعي والنفسي.
كرة القدم : الفضاء الحر للغة الجسد!
تحفّز كرة القديم العديد من المشاعر، وبعد قدوم التلفزيون صارت هذه المشاعر أكثر صخبًا، صرنا نراها من خلال حركة الكاميرا القريبة والبعيدة "الزوم\البانوراميك"، وصار للفرجة شغف اللعب وشغب القصة التي يبنيها التلفزيون للمباراة. صارت حركة الجسد حمّالة لقصص ومعان لا متناهية تنطلق من المتابعة المباشرة. فيبني جمهور الملعب قصته ويتناقلها وتمتد مع البث التلفزيون، حيث يبني أيضًا جمهور التلفزيون قصصه وتتواصل مع التحاليل في المنابر الإعلامية للبرامج الرياضية. صرنا نتابع مشاهد درامية تنتقل من الفضاء العام إلى التلفزيون. فكلّ فريق ولاعب يبني صورته بطريقة لعبه، ويفتح أفقه بمهاراته الجسدية واستعداداته الذهنية التي تصنع منه قصة نجاح. على هذه الشاكلة تتحول الملاعب إلى مدار قصص وحكايا مجتمعات كانت تتناطح قبلًا بمدة حول المكاسب والثروات والمحاولات الاستعمارية، فصارت ترغب في الدفاع عن جدارتها ومكانتها في نيل هذه المكاسب من خلال سلطة "النجاح" وانتشاء جماهيرها بهذا النجاح مما يعزز انتماءهم.
وفي المحافل الدّولية، تحدث "المعجزة" في تحويل الجماهير إلى جمهور واحد شكلًا بغض النظر عن الفريق المشجع، فيتحوّل الملعب إلى الفضاء العام الذي يذكّرنا بـالفلسفة التواصلية لهابرماس. إنّه الحوار والنقاش المعلن أمام الملأ ولكن بالجسد. جسد متحرّر منعتق من كلّ حدود حتى وهو يستجيب لقواعد اللعبة. إنها حالة الحرية "البكر"، وليس أكثر صدقًا من الجسد في التعبير. ولقد دافع المفكر الإيطالي غرامشي عن هذه الفكرة باعتباره كرة القدم "مملكة الحرية الإنسانية في الهواء الطلق". نرى اللّاعب يصعد ويهبط، لو مطّطنا الحركة سنرى رقصة صوفية حول الهدف-الكرة. حالة من التماهي بين الجمهور واللاعبين. الجمهور هو عبارة عن الطاقة التي تغذي عقل وجسد اللاعب فتكون حركته في تناغم مع تمثّلات الجمهور. فينطلق تجاه الهدف. إنّ الحديث عن كرة القدم، الرياضة الأكثر شعبية، هو الحديث عن المجتمع بأسره. فالكرة هي جزء من بنية أيّ مجتمع.
هل يرى المفكّر الإيطالي إمبرتو إيكو ما نراه؟
قبل عشرين سنة من الآن للمفكر الإيطالي إمبرتو ايكو حوارًا بمناسبة الألعاب الأولمبية مع مجلة GLOBE (وعن ترجمة لمصطفى السهلي، سلا الجديدة، المغرب) طرح من خلاله مفهوم الاستعباد المعنوي للجمهور فاعتبر أن الرياضيين: "الكائنات الوحشية (كأخصياء كنيسة سيكستين) “صُنعت” لتصبح أبطالًا بلا روح، تحيط بها جماهير مبتهجة تتفرج عليها لترى كيف “تحرك أجسادها”. يتعلق الأمر هنا بنوع من الاستبداد المعنوي الذي يفرض على الأغلبية نسيان جسدها، لتعجب بجسد أقلية."
واستحضر إيكو نصًا كتبه سنة 1958 قال: "رأيت أحيانًا خلال كأس العالم عروضا جيدة.. ولكن ما يغيظني حقًا هو النفاق. فعندما قتل الهوليكانس القادمون من ليفربول عددًا من الأشخاص في ملعب “هيزل” في بروكسيل، فإن الذين كانوا يصرخون ”يا للمصيبة” هم الذين شجعوا هؤلاء المشاغبين على التصرف بتلك الطريقة. لنأخذ المسألة بجد، ولنفعل مثل “الأزتيك” الذين كانوا يقدمون عند نهاية كل مباراة عميد الفريق قربانًا للآلهة…العبوا مباراتكم، وإذا حدثت مذبحة بين الجمهور فأنتم المسؤولون عن ذلك. ولكن إذا انتهت البطولة ينبغي إعدام ممول الألعاب، تكريمًا للآلهة. إنني أرفض أن يستمر تشجيع التهتك الذهني، بينما يتم بكل نفاق الاحتجاج ضد الهوليكانس: هؤلاء الوحوش الذين قتلوا أبرياء. غير أن هؤلاء ”الوحوش” هم “نتاج” الصحافة الرياضية والتلفزيون."
وإجابة عن سؤاله لإمكانية اعتبار الألعاب الأولمبية مجرد عرض وهمي ومحض مشاهدة تلفزية، قال إيكو: "بالتأكيد، مثل غزو القمر، في العمق لسنا متأكدين أن الأمريكيين قد نزلوا على سطح القمر، نحن نعلم فقط أن التلفزة روت القصة… كذلك ما هو الدليل الذي تملكونه على أن الألعاب الأولمبية كانت تقام فعلًا في اليونان القديمة؟ ألأن الشعراء تحدثوا عنها؟"
والآن، بعد عشرين سنة، لو أجرى إمبرتو ايكو ذات الحوار هل ستكون له ذات الردود؟ هو سؤال يخطر ببالنا على كلّ الأحوال. ولكن الهدف ممّا كتبنا أنّ كرة القدم مشهدًا فنيًا وفكريًا لو أخذ مساحته في بحوث علماء الاجتماع، لربّما أدركنا من خلاله أبعادًا جديدة في تركيبة المجتمعات لا يمكن أن تكتشف، إلاّ أثناء الهبّة والتفرغ التام لمشاهدة ومتابعة كأس العالم بكلّ تفاصيله. فحالة التصعيد والتعري النفسي والاجتماعي لا يمكن أن تكون في أوجّها كما في حالة مشاهدة كرة القدم من جهة الجمهور، وفي حالة اللعب وتفجير الطاقات والتحرر من جهة اللاّعب. الكثير من لاعبي كرة القدم عبر التاريخ طبعوا جزءًا من ذاكرتنا بفضل التعامل مع الكرة كفنّ وتقديم استعراضات ناجحة بعيدًا عن الحسابات السياسية والاقتصاديّة التي تدار في كواليس أي مسابقات عالميّة. يظل اللّاعب صدى أحاسيسه الصادقة في التعبير عن قصة عشقه مع الكرة، ويظل الجمهور ممتلئ بعلمه، وأما ما هو خارج الملاعب فلا يمكن على أيّة حال أن يسيطر على الفرحة وتسويق الفرح بموسم الفرح بالبطولات الكبرى ككأس العالم.