شئنا أم أبينا، تحتلّ الثقافة واللغة العربية مكانة مهمّة في الهويّة التونسية رغم اختلافها الشديد مع الدارجة التونسيّة وتدنّي مستويات اهتمام الشباب بالثقافة العربية لصالح الثقافة الغربيّة في السنين الفارطة. ولكن علاقة التونسيين باللغة العربية الفصحى تتميّز بالطرافة والغرابة. أغلب (أو بالأحرى جميع) التونسيين، على سبيل المثال، يكتبون في سيرهم الذاتية أنّ العربية لغتهم الأم في حين أنّ الأغلبية الساحقة من الشباب التونسي اليوم لا يتقنونها، ثمّ إنّ جزءاً كبيراً منّا غير قادر حتى على كتابة جملة مفيدة بالعربية الفصحى. ويفرض علينا تعلّم الأدب الجاهلي وأدب القرون الأولى للهجرة في المعاهد الثانوية منتظرين منا أن نكون فقهاء في العربيّة الكلاسيكية لعمر ابن ربيعة وقيس ابن الملوّح، في حين كل ما نعلمه من العربيّة هو ما حفظناه من الرسوم المتحركة في قناة سبايستون وآم بي سي 3 وغيرها.
ولعلّ أشد الأمور طرافة في علاقة التونسيين بالعربية هي ظاهرة انشقاق غالبية المجتمع إلى وجهتي نظر: أما من يتّبعون وجهة النظر الأولى فيرون العربية الفصحى مصدر سخرية وإضحاك ينسبونها إلى فئات معيّنة من أشباه المثقفين والسياسيين، وأماّ من يتّبعون الثانية فيرونها من المقدّسات وينسبون لها شتى أنواع الأساطير.
في العادة، سبب سخرية من ينتمون إلى الشق الأوّل هو اعتبار العديد أن العربية الفصحى لغة النخبة، وإتقانها مصدراً للأنفة والتفاخر، وسبباً في الانقطاع عن "باقي الشعب". وتنسب العربية الفصحى هنا أولاً إلى "الثقفوت" أو أشباه المثقفين، عادة ما نجدهم يتداولون أطراف الحديث في مقاهي "المدينة العربي"، يحتسون ال"ديراكت" مرتدين ثياباً توحي بمستواهم الثقافي، لا نجدها عادة عند عامة الشعب (أو من عندهم ذوق ومعرفة، ولو سطحية، بالموضة بصفة عامة)، و من حين إلى آخر يحاولون إغراء فتيات المعاهد بأفكارهم الثوريّة و جمل غريبة من سبيل "جسدك ثورة" و "هل تعرفين نبي اليساريّة كارل ماركس؟"
وينسب المنتمون إلى هذا الشقّ العربية كذلك إلى خط ابات المسؤولين و"اللغة الخشبية"، التي يعتمدها السياسيون في حملاتهم الانتخابية. نجد مثالاً على هذا حملات السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي من الرئيس الحالي، لصعوبة فهم اللغة التي اعتمدها في خطاباته السابقة، وعدم قدرة العديدين على فهم الأمثلة التاريخية التي قدّمها. نتج عن ذلك تلقيبه بـ"الروبوت" من البعض بسبب رتابة خطاباته، و"الإخشيدي" من البعض الآخر بسبب مثال قدّمه في أحد خطاباته لم يتمكّن أحد من فهمه.
أمّا الشق الثاني فينظر إلى العربية على أنّها لغة القرآن فينسبون لها طابعاً مقدّساً. للأسف، عادة ما يؤدّي هذا إلى التمادي في تمجيد اللغة وخلق أساطير لا أساس لها من الصحّة إضافة إلى كميّة مهولة من المغالطات. وهذا التمجيد والتشبّث بالأساطير يؤدي في بعض الأحيان حتى إلى العنف. فعلى سبيل المثال، يعتقد البعض بأنّ أدم وحواء نزلا إلى هذه الأرض يتحدثان العربيّة، وأنّ العربية لغة الجنّة (طبعاً لأنّ في اعتقادهم أن كل من لا يتحدث العربيّة مصيره النار ومفاتيح الجنّة في أياديهم.) ولك أن تتخيّل ردّة فعلهم عندما تحاول أن تفسّر لهم أنّ أصول اللغة العربية بدأت تقريباً في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد، وأنّ عديد اللغات وجدت قبل العربيّة. ثمّ نجد أكثر المغالطات انتشاراً في العالم العربي وهي أنّ اللغة العربية "أحسن" لغة وتحتوي على أكبر قدر من الكلمات. فبداية، لا وجود لأفضلية في دراسة اللغات، وثانياً، يكفي أن نكتب السؤال على أي محرّك بحث لنجد أن الإنجليزية هي التي تحتوي اليوم على أكبر عدد من الكلمات.
هذا التطرّف في التعامل مع اللغة (كما نقول بالدّارجة "يا طورة يا فورة" أو "يا كحلة يا بيضة") لا يمكنه أن يؤدّي إلاّ لتعميق التفرقة في صفوف التونسيين. فيبقى الأفضل أن نتعامل معها بكلّ بساطة على أساس أنها لغة، ووسيلة للتواصل، وجزء مهم من ثقافتنا وهويّتنا، فلا حاجة للسخرية أو التقديس.