يدرك المتابعون التونسيون للأحداث الراهنة في العالم، لا سيما فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، أن تونس لن تكن بمنأى عن ارتدادات هذا الصراع، حيث ستكون التداعيات الاقتصادية أول مستويات التأثر بالنزاع الدائر في شرق أوروبا، رغم بعدها الجغرافي. وجاء بيان صادر عن البنك المركزي التونسي ليؤكّد كل المخاوف والتوقعات.
ودعا مجلس إدارة البنك المركزي التونسي، خلال اجتماعه الاستثنائي المنعقد الاثنين، إلى "تشديد اليقظة واعتماد مقاربة استباقية، للتخفيف من تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على النشاط الاقتصادي الوطني والتوازنات الكلية".
وتعود أسباب هذه التداعيات المتوقعة إلى التبادل التجاري الذي يربط تونس بروسيا من جهة وأوكرانيا من جهة أخرى، بالإضافة إلى مساهمة سياح البلدين في إيرادات السياحة التونسية، وبشكل خاص إلى ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً وانعكاساتها تأثرا بالحرب الدائرة حالياً.
وتعاني تونس خلال السنوات الأخيرة من أزمة اقتصادية حادة زادها الغزو الروسي على أوكرانيا حدّة. وتكافح تونس في ظل تراجع مواردها المالية، وارتفاع التضخم والبطالة، وتراجع احتياطي البلاد من العملة الأجنبية.
وكانت بواخر محملة بالقمح قد رفضت في ديسمبر الماضي تفريغ شحناتها لأن الحكومة التونسية تأخرت عن دفع ثمنها، في دليل واضح على بلوغ الأزمة المالية للبلاد مستويات حرجة يصعب التعامل معها ومعالجة تعقيداتها.
وتزداد مشكلات تونس حرجاً عندما يتعلق الأمر بأمنها الغذائي، والذي تعجز الدولة عن تحقيق اكتفائها الذاتي فيما يتعلق به، فهي تستورد 60 بالمائة من قمحها من أوكرانيا وروسيا، فيما بالكاد يكفي حالياً مخزونها من هذه المادة 4 أشهر فقط بحسب مسؤولين في وزارة الفلاحة.
ويشتكي المواطنون التونسيون، هذه الفترة، من نقص كميات المعجنات في الأسواق، إلى جانب ارتفاع ثمن الخبز أحياناً، وغلق بعض المخابز أبوابها يومياً عند منتصف النهار، في حين أنها كانت في السابق تفتح طيلة اليوم. ويعود تغيّر توقيت عمل هذه المخابز إلى نقص مادة الدقيق من الأسواق.
وتضع هذه المعطيات تونس في مصاف الدول المتضررة من تداعيات الغزو الروسي على جارته، على اعتبار أنها كانت تشتري القمح من هذين البلدين بتكلفة منخفضة.
لكن الأوضاع مستقبلاً لن تكون كما كانت قبل الحرب الحالية، فتونس ستكون مضطرة للبحث عن بدائل عن القمح الأوكراني والروسي، ما يجعلها تلجأ لاستيراد حاجياتها من هذه المادة الأساسية من الولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية.
ويتوقع الخبراء أن يكون هذا البديل مكلفاً، نظراً لتأثر أسعار استيراد القمح بارتفاع تكاليف العملية اللوجستية، بسبب الزيادات في أسعار النفط التي يشهدها العالم حالياً.
وتنتظر تونس وصول طلبية جديدة من القمح اللين كانت قد اشترتها في الفترة الأخيرة بسعر أغلى بنسبة 35 بالمائة، مقارنة بالسعر الذي كانت تشتري به قبل هجوم روسيا على أوكرانيا، وفق ما ذكرت مصادر مطلعة على تفاصيل الصفقات التونسية في هذا الشأن.
في المقابل، يصرّ رئيس البلاد قيس سعيّد على تكرار فكرة أن المحتكرين هم وحدهم سبب نقص المواد الغذائية في الأسواق، ورفضه النظر إلى الصورة الحقيقة والكاملة، والتي تفسّر هذه الأزمة بالتداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية على تونس.
وأكّد مجلس إدارة البنك المركزي، في بيانه، أنه يتابع "تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على النشاط الاقتصادي الدولي وعلى سلاسل التزويد وعلى الأسعار العالمية للمواد الأولية والمواد الغذائية الأساسية، والتي من شأنها أن تؤثر بصفة ملموسة على مستويات التضخم."
وفيما يتعلق بالقطاع السياحي في تونس، فلا يبدو هو الآخر بمعزل عن الارتدادات الموجعة للحرب في أوكرانيا. تجدر الإشارة إلى أن تونس استقبلت 630 ألف سائح روسي و33 ألف سائح أوكراني خلال العام 2019، وفق وزير السياحة التونسي محمد المعز بلحسين. وتعدّ السوق الروسية ثاني أكبر سوق للسياحة التونسية بعد السوق الفرنسية. وحالياً، تدرس خلية أزمة تم إنشاؤها في وزارة السياحة إمكانيات تخفيف التداعيات الثقيلة للأزمة الحالية.
وكانت تونس في خضم الإعداد لبرنامج واعد من أجل تحقيق 50 بالمئة من أرقام سنة 2019 خلال الموسم الحالي فيما يتعلق بالسياح الروس، لكن الحرب في أوكرانيا بعثرت كل أوراق وحسابات المسؤولين وعبثت بخططهم لتغرق في المجهول وتبقى رهينة كشف الأيام القادمة لمصيرها.
ويقول المسؤولون والخبراء إن تونس تعتمد بشكل أساسي على السياح القادمين من دول المغرب العربي، خاصة ليبيا والجزائر، إلى جانب السياح الأوروبيين من أجل إنقاذ الموسم السياحي هذا العام.
وإلى جانب ذلك، لا يخفى على الخبراء والمتابعين أن ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية سيكون له تداعيات كبيرة على الوضع في تونس، لا سيما في ما يتعلق بنفقات البلاد ومدى قدرتها على الالتزام بما تم تحديده سابقاً في ميزانية الدولة التي تصاغ بنود القانون الضابط لها بناء على السعر العالمي لبرميل النفط. وستكون النتيجة الحتمية لارتفاع أسعار الطاقة عالمياً زيادة أسعار المنتجات الغذائية وغيرها من المواد الاستهلاكية. وأعدّت الحكومة التونسية ميزانية الدولة للعام الحالي على أساس 75 دولار سعر برميل النفط، في حين أنه يقدر حاليا بـ115 دولار للبرميل.
وكانت تونس قد أقرت خلال السنوات الأخيرة آلية التعديل الآلي لأسعار المحروقات، ما يسمح بزيادة أسعارها، انسجاماً مع نسق أسعار النفط العالمي. ويقرّ قانون المالية لهذا العام زيادة شهرية بنسبة 3 بالمئة في أسعار المحروقات.
لكن هذا الإجراء ليس بمقدوره سد الفجوات في ميزانية البلاد بل من شأنه أن يزيد الأوضاع الاجتماعية تأزماً، حيث يساهم بشكل كبير في تواصل الارتفاع المشطّ للأسعار في تونس.
وشدّد مجلس إدارة البنك المركزي على ضرورة اتخاذ "القرارات المناسبة بصفة عاجلة" من أجل تفادي "تفاقم العجز الجاري وزيادة الضغوط التضخمية خلال الفترة المقبلة".
كما أكّد أن "التطورات الأخيرة سيكون لها انعكاس ملحوظ على توازنات المالية العمومية لاسيما من خلال الارتفاع الهام لنفقات الدعم". وأضاف "من شأن هذه الوضعية أن تؤدي إلى تفاقم عجز الميزانية وبروز حاجيات تمويل إضافية".
عانى اقتصاد تونس من الوهن لسنوات بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني والاضطرابات الاجتماعية، وازدادت الأزمة حدّة مع جائحة كورونا. وما كادت تونس تلتقط أنفاسها بصعوبة، إلا أنها اليوم تحبسها مجدّدا وهي تراقب تطورات الحرب الروسية الأوكرانية مدركة جيداً أنها في مرمى تداعياتها الاقتصادية.