توالت نجاحات عبد الحميد بوشناق في السنوات القليلة الفارطة ولاقى مسلسل النوبة وفلم دشرة إعجاباً كبيراً من الجمهور التونسي. ويمكن حتى أن ننسب له الموجة الأخيرة المطالبة بتشجيع الفنانين التونسيين التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي. حتى أنّ محبي أعماله صاروا يعتمدون معجماً خاصّاً بهم للتعبير عن إعجابهم من قبيل "عشقة" و"تنهيدة" و غيرهم من المصطلحات…المثيرة للاهتمام.
ولكن هل تبرر هذه النجاحات التردّي في مستوى عمله الأخير؟ ومتى يصبح "تشجيع الفنان التونسي" تمادياً وتطبيعاً مع الرداءة الفنية؟
أثار اهتمامي ترشيح فيلم "فرططو الذهب" للمخرج عبد الحميد بوشناق لتمثيل تونس في السباق لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم عال مي 2022 فاغتنمت أوّل فرصة لمشاهدته في قاعة سينما بقرطاج، وكلّي يقين بأنّ هذا العمل سينال إعجابي بعد كلّ المديح والتمجيد الذي سمعته عنه وخاصّة وأني قد أعجبت بجميع أعمال بوشناق التي سبق أن شاهدتها، فما راعني إلّا… مقدّمة مثيرة للاشمئزاز ومشاهد عنيفة وساديّة دون سابق إنذار. أردت مغادرة القاعة منذ الدقائق الخمس الأولى، ولكن قررت البقاء وكلي يقين أنّ هناك سبباً جيداً وراء هذه المشاهد، لأتيقن لاحقاً أنّ لا فائدة ترجى من هذه المشاهد، وأنّ وجودها غير ضروري ولا يصلح حتى لشدّ الانتباه وجلب اهتمام الجمهور.
كذلك حاولت تجاوز الاستعمال المفرط للشتائم والمشاهد المقززة والمؤثرات الصوتية الدرامية التي لا مكان لها في معظم المشاهد، وتندرج ضمن فئة التلوث السمعي. حتى لو اعتبرنا أنّ كل هذا الشتم والتصرّفات القذرة يندرج ضمن محاكاة الواقع، لا يمكن أن ننكر التعسّف والإفراط في إدراجها في ثنايا السيناريو.
ثمّ أنّ الكمّية المهولة للكليشيهات حالت دون تمتّعي بالفيلم. حبكة القصة بحد ذاتها مبتذلة وموجودة في عديد الأفلام والروايات السابقة. لعل الوجه الوحيد للإبداع في الفيلم يكمن في المؤثرات البصريّة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا عمل تونسي، وقليل من تجرّأ على المخاطرة بمؤثرات من هذا النوع في الأعمال الفنيّة التونسية. لكن يبقى الإشكال، وهذه ظاهرة لاحظتها عند عدد مهمّ من المخرجين التونسيين، في الهوس بإرباك وإثارة حيرة المشاهدين في ثمانين بالمائة من مدّة الفيلم ثمّ تفسير كلّ شيء في نهايته. هذه التقنية المبتذلة لا تأخذ بعين الاعتبار تمتع المشاهد بالعمل الفني، بل تسمح لكاتب السيناريو بالتباهي بعضلاته الفكرية على حساب إضاعة وقت الجمهور.
ومع الرغم من كلّ هذا، يبقى عبد الحميد بوشناق فنّاناً قديراً ومبدعاً ذي تأثير كبير على الساحة الفنية بتونس. لا يمكن أن ننكر تأثيره وإبداعه ومساهمته في إثراء السينما والتلفزة التونسيّة. بطريقة أو بأخرى، أحدث بوشناق ثورة في هذا المجال من خلال أعماله، واستغل شهرته في الدفاع عن حقوق الفنان التونسي، والمطالبة بتغييرات جذرية في هذا المجال في تونس، إضافة إلى مطالبته بإعطاء الثقافة والفن حقهما من خلال مداخلاته في مختلف المنابر الإعلامية.
لعلّ ريادة عبد الحميد بوشناق في هذا المجال وتقديمه لأفكار ووجهات نظر جديدة تمثّل فرصة للنهوض بمجال الفنون التونسية، والتعبير عن الهويّة، والمشاغل، والمآسي، والأحلام، والطموحات التونسية في العالميّة، ولعلّ سيمنح هذا النهوض صوتاً مسموعاً للمواطن التونسي ضمن ضوضاء العالم.