لا يمكن لأحد إنكار تأثير الأسطورة اللبنانية فيروز على الشعوب والموسيقى العربية، ووصول صدى شهرتها وصوتها العذب إلى كافة أنحاء العالم، ولكن لعلّ أكثر ما يشدّ الانتباه في إنجازاتها هو قدرتها على التغلغل في الهويّة التونسية، وكسبها لقلوب آلاف أو ملايين التونسيين عبر الأجيال.
بعد 86 سنة أمضت فيروز أغلبهم في خدمة الفنّ، يصعب أن نجد اليوم تونسيًّا يجهل اسمها، أو غير قادر على التعرّف على وجهها. ولم يقتصر عشق فيروز على الأجيال الماضية التي تمتّعت بصوتها الأسطوري في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وتربّوا على سماع صوتها، بل إنّ أسطورتها وأغانيها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافي التونسي المعاصر، فنجد شبابًا وأطفالًا يستمعون إليها وحافظين لمختلف أغانيها.
وتتنوّع ظواهر تأثيرها في المجتمع التونسي. فنجد بداية ظاهرة "فيروزيات الصباح". تتلخص هذه الفكرة في وجوب الاستماع إلى فيروز في الصباح لنتمتّع بالسكينة والسلم الداخلي، وتتبنى هذه الفكرة مئات المقاهي في تونس، خاصة المقاهي التي يترددّ عليها "الثقفوت" (أو من يعتبرون أنفسهم مثقفين.)
ثمّ نجد في هذه الفصيلة من التونسيين الظاهرة الثانية وهي "لا يمكنك أن تكون عميقًا دون الاستماع إلى فيروز"، فكما يظن بعض المتطرفين دينيًا أنهم يملكون مفاتيح الجنّة بين أيديهم، يعتبر عدد مهمّ من "الثقفوت" التونسيين، أو المتطرّفين ثقافياً، أنّهم يملكون مفاتيح الدخول إلى "النخبة المثقّفة" في تونس. حسب وجهة نظرهم، لا يمكنك أن تكون "عميقًا" و"مثقّفًا حقيقيًّا" و"مبدعًا" إن لم تستمع إلى صوت فيروز، وتسمح لكلماتها بإلهامك وحملك إلى عالم آخر بعيدًا عن الواقع المرير وضغوط الحياة وبسطاء العقول الذين يحيطون بالنخبة الثقافية المسكينة من كلّ جانب.
أمّا الظاهرة التالية فتتعلق بسائق التاكسي والراديوهات. كما نجد قانون نيوتن للجاذبية وقانون آينشتاين للنسبية، نجد قانون سواق التاكسي لصوت فيروز، وهو كالتالي: إذا بدأت إحدى أغاني فيروز على الراديو، بدأ خطاب "هذا هو الفنّ" حيث يستمتع السائق باعتماد جميع ألفاظ التحقير والازدراء للسخرية من كافّة أشكال الفنّ المعاصر، قبل أن يمرّ إلى السخرية والتحقير من شأن شباب اليوم وقلّة ذوق هذا الجيل. ثمّ يواصل خطابه بلومنا على كلّ ما يحصل من سيء في البلاد، واتهامنا بالكسل والتدنّي الأخلاقي. ثمّ تخرج من التاكسي متسائلًا: أين المنطق في ربط عدم الاستماع إلى فيروز بالانهيار الأخلاقي؟ الله أعلم.
كلّ هذا التعصّب والهوس المفرط الذي يعبّر عنه بعض الأشخاص في علاقتهم مع أغاني فيروز يتميّز بالطرافة، خاصّة وأنّ هذه الأخيرة كانت كلّ همّها الغناء للحب والفرح والحياة البسيطة والحزن والوطن، مواضيع تتعارض مع العنف، والتعصّب، والتفاخر غير الضروري والإقصاء الذي يمارسونه. ولعلّ هذا ما جعل العالم عاشقًا لصوتها، وكلمات أغانيها، وما جعل البلدان تتنافس على تكريمها. حصلت فيروز على عدة أوسمة شرفية من الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين، ومُنحت في عديد الأحيان مفاتيح المدن التي غنّت فيها. حتى أنّ ملك المغرب حسن الثاني استقبلها شخصيًا في المطار بمناسبة أحد عروضها في المغرب، وعمدة لاس فيغاس أعلن رسميًا يوم 15 ماي 1999 "يوم فيروز".
غنّت فيروز كذلك للأطفال، وعن الأم، والقضيّة الفلسطينية كاسبة بذلك قلوب الملايين من العرب، وخاصة التونسيين عبر الأجيال. أخبرنا بالتعليقات لماذا تحب السيدة فيروز، وما هي أغنيتك المفضلة بصوتها؟