ما لم يقل عن " الفلّوجة"
كيف نعالج الواقع بالصدمات؟
ما زلت أستحضر حديثًا دار بين أب و إبنته التي لم تتجاوز سن الحضانة بعد. كانت الطفلة تشتكي من معاقبة المعلّمة لها في الحضانة، وكان الأب يوبّخها ويبلّغها تهديدًا لمعلّمتها تلك، هذا محتواه :"قولي لمعلمتك لو تضربيني مرّة أخرى سيحاسبك أبي وسيفعل لك كذا وكذا." ولن أخبر عن بشاعة المصطلحات التي استخدمها وطلب من طفلته أيضًا استخدامها. هذا ما نطق به الأب المحسوب على اللآباء المعدّين للأجيال. وأيّ مصير لجيل يمكن أن يعدّه أمثال هؤلاء الآباء؟
هذه الواقعة لا تقلّ قيمة عن العنف المادّي الذي حصل في مدارسنا التونسيّة في السنوات الأخيرة. ويكفي أن نجرّب كتابة : عنف داخل المدارس والمعاهد التونسية على المحرّك غوغل حتى نتحصّل على عدد لابأس به من النتائج: 3580000 في 34 ثانية فقط.
هل ينسى أحدنا الاعتداء على أستاذ التاريخ والجغرافيا الصحبي بن سلامة من قبل تلميذه؟ وكان اعتداء بالساطور أدخله غرفة الإنعاش وكاد يفقده حياته. أو هل يغيب عن أذهاننا التلميذ الذي قام بإلقاء ملابس داخلية نسائية على أستاذه؟ أم هل نتجاهل ما حصل في رادس حين حاول تلميذ منقطع عن الدراسة التعرّض إلى أستاذه قصد الاعتداء عليه بسيف؟ وغيرها من القصص والحكايا عن حالات العنف و"الهمجية" داخل المؤسسات التربوية.
وكم من مرّة قفزت إلى أذهاننا عدّة أسئلة ونحن مارّين من أمام أحد المدارس أو المعاهد ومن بين الأسئلة التي نطرحها كثيرًا ونشترك فيها: "هل هذه البنت أو هذا الشاب خرج من بيته على هذه الهيئة، أو هل عائلته تعلم أنه يمارس كذا أو يستهلك ممنوعات، أو أين عائلتها حتى تكون وهي القاصر في أماكن حتى الكبار يخافون ارتيادها؟" وكم من مرّة استغربنا من ردود أفعالهم مع الأكبر سنّا ، والهروب من المدرسة وقضاء جلّ الوقت في المقاهي وغيرها من السلوكيات.
يعترف جميعنا بهذه السلوكيات يعترف بها جميعنا ولكنّنا اعتدنا فقط الحديث عن "الأسود" في الظلام بين الكواليس. لانّ الاعتراف المعلن يكلّف بصرف مجهودا لتغيير السلوكيات وتغيير واقع المدارس والمعاهد.
بين 2020 و2021، قدّم المرصد الوطني إحصائية حول حالة العنف في الوسط المدرسي وتوصّل إلى 2928 حالة عنف خلال سنة دراسية واحدة. كما تمّ تسجيل 8473 قضايا عنف رفعت سنة 2021 ضد أطفال. ويمكن أن نرفق هذه الإحصائية بتصريحات في الأسفل لرئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني وتصريح وزير التربية السابق فتحي السلاوتي وكلّ التصريحات مؤكدة لحالة العنف وللوضعية المتردّية.
ينضاف إلى العنف المادي للتلامذة والأطفال، العنف الممارس من الإدارة ومن برمجة وسياسات التربية والتعليم ضد هؤلاء التلامذة والذي يمكن اختزاله في خمس نقاط أساسيّة نقاط أساسيّة: أوّلًا وضعية المدارس والمعاهد المنفّرة والتي لا تتوفر بها المرافق الأساسيّة لسير الدروس في ظروف جيّدة، وثانيًا إفراغ هذه المؤسسات التربوية من الأنشطة الثقافية بعيدًا عن تلك الأنشطة المناسباتية لخدمة صورة المدير وليس تقديم الإفادة للتلميذ. وثالثًا تسيير المؤسسة التربوية في عصر حديث ومغاير تمامًا بنفس الأسلوب السابق. ورابعًا شحّ بعض الأساتذة والمربين في تقديم الإضافة للتلميذ، واحتوائه دون اعتماد العنف والجبر، وخامسًا استقالة جزء من العائلات التونسية من أداء دورها في متابعة وتكوين أبنائها.
حملنا هذا التشخيص للوضع داخل المعاهد والمدارس التونسية إلى الموقع الرّسمي لوزارة التربية حيث تنشر في العادة مخططاتها ومناشيرها، وغيرها من المعلومات حول وضعية التربية فتفاجأنا بمؤشرين هامين: أوّلا قائمة الجمعيات التي هي في علاقة بوزارة التربية ومختصة في المجال التربوي وقائمتها موجودة على موقع وزارة التربية ويصل عددها إلى 890 جمعية. أي دور أو أي إضافة لهذه الجمعيات داخل المؤسسة التربوية، الحقيقة كلّها يبحر في الضبابية؟
أمّا المؤشر الثاني وهو في اعتقادنا أكثر خطورة فآخر مخطط استراتيجي حسب موقع الوزارة كان بين 2016 و2020 ومن بين النقاط الأساسية التي جاءت فيه طبعا وحسب ما فهمنا تطور التعليم كمؤسسة وبرمجة وتحسين الجودة ولكن يبدو أنّ ذلك لم يكن إلاّ مشروعا وتخطيطا لملء فراغات الموقع الرسمي للوزارة. وحسب الموقع كانت تلك آخر مخطط وسياسيات ولم يتم حتى تقييمها.
إذن حين تعجز بعض الجمعيات المختصة في التربية عن أداء دورها وحين تغيب السياسات العامة الإصلاحية وتستقيل السلطة صاحبة القرار، وحين ترتفع مؤشرات العنف والفوضى والانفلات داخل المعاهد: هل يكون على الدراما الكذب وتزييف الحقائق إرضاء لهدوء وسكينة أصحاب القرار، أم هل تتفجّر في وجه هذا الواقع وتقدّم الحقيقة كما هي وبكلّ بشاعتها الواقعية؟
هذا السؤال الذي علينا طرحه اليوم في تونس، وسط هجوم البعض على مسلسل"الفلوجة" لسوسن الجمني على قناة الحوار التونسي. فقد صدمت المخرجة، مشاهديها بحالة المؤسسة التربوية الرثّة وأثارت ضجة كبيرة بين مؤيّد ومنتقد ومتندّر.
لنتفق من البداية أنّه قد نختلف فنيّا مع هذا العمل الدرامي ومنهج المخرجة والسيناريست في تمثّل أزمة المؤسسة التربوية والعلاقات بين التلميذ والأستاذ داخل هذا الفضاء، ولكن هذا لا يمنحنا الشّرعية بالمطالبة بإيقاف عمل درامي بتعلّة أنه طرح الواقع.
صحيح أنّ الدراما طرح فني وجمالي للواقع، هو طرح لما نعيشه سامحين بعض الشيء لمخليتنا بتجميله والهروب جزئيا عنه بطرح المنشود. ولكن الدراما أيضًا كفن وحسب تعرف لأوسي ديفيس: "أي شكل من أشكال الفن هو شكل من أشكال القوة، له تأثير، ويمكن أن يؤثر على التغيير. لا يمكن أن يحركنا فقط، بل يجعلنا نتحرك." وما قدّمه مسلسل الفلّوجة كصدمة علاجيّة لابدّ من استثمارها في الإصلاح وليس الوقوف فقط عند طرح المسلسل كمحمل فني، بل هو محمل اتصالي واجتماعي وجمالي وفني. وتصوير البشاعة جرأة أيضًا صادمة للبعض، ولكن هناك من يتحفّز بالصدمة لتحسّس الطريق نحو الإصلاح.
فكان من الممكن أن تتعامل وزارة التربية مع مسلسل الفلوجة كمحمل وتشخيص جاهز لواقع المؤسسة التربوية، وكان على الأطراف المهاجمة والتي تزعم حسّها الوطني في ذلك، كان عليها التحرّك بإطلاق بحث حول الموضوع، وتأمّل الوضع، والتدقيق وفتح منابر للحوار، وبحث حلول مستعجلة والقيام بنقد ذاتي بدلًا من مضيعة الوقت في محاسبة عمل درامي طرح الواقع ببشاعته. هل كان على العمل أن يقدّم غير الحقيقة؟ ربما كان عليه أن يوازن قليلًا، ولكن في نهاية الأمر الحقيقة نفسها ونحن في الكواليس نعترف بها ونقرّ بالوضعية الكارثية التي بلغتها مؤسسات التربية الحكومية، وهروب بعض العائلات إلى الخاص. ونحن ندرك جيّدا أنّ بعض العائلات ورغم دخلها المحدود فتعمل جاهدة حتى تسجّل أبناءها بالمعاهد والمدارس الخاصّة.
بدل مهاجمة العمل الدرامي دون أي شرعية أو مشروعية في ذلك، فيجدر بوزارة التربية وجمعياتها التي تنشط في سياق تربوي والتي يقارب عددها الألف جمعية، يجدر بها الاستجابة لناقوس الخطر الذي دقّه مسلسل الفلوجة. والمبادرة لمعالجة الوضعية التربوية وإنقاذ الجيل بدل مضيعة الوقت في معارك ونقاشات واهية لتصفية حسابات مع أطراف معينة.
لسنا أبدا في عصر "قرطاس القلوب" و" والبوزة" والتسلية مع تحيفة الخطاب على الباب ولا في عصر الضحك على الناس بمسلسلات لا تعكسهم.
إن الدراما شكل فنّي وأسلوب في طرح المضمون، ولكن أيضًا تلعب دورًا هامًّا كوسيط بين الجمهور والسلطة بهدف التغيير. إن الدراما مطالبة بتعرية الواقع. كنا نتفق مع المهاجمين لو كان المطروح غير موجود، ولكن للأسف موجود ومستفحل. أعتقد حان الوقت للتعامل بإيجابية مع نواقص هذا المجتمع وإصلاحها، والتعاطي الجيد مع أي مبادرة للإصلاح، حتى لو كان بإظهار الحقيقة ببشاعتها. فالفضح والتعرية بدايات أيضًا في اتجاه الإصلاح.