في أحد البرامج التلفزيونية المسجّلة والتي تعود إلى سنة 1964، وجّه المقدم غونتر غاوس سؤال للمنظّرة السياسية والمفكّرة الألمانية حنة آرنت، وكان كالتالي: "سيدة تعمل في مهنة يعبّر عنها البعض بالمهنة الرجولية...أنت فيسلوفة أرجو أن تسمحي لي بسؤالي الأوّل على الرغم من الاعتراف والاحترام الذي حصلت عليه، هل ترين بأنّ دورك ضمن الفلاسفة غريب أو فريد لأنك امرأة فتجيبه ساخرة: "تقول بأن الفلسفة تعتبر بشكل عام مهنة رجولية...؟" ثم تواصل قائلة: "يجب إذن ألاّ تكون تبقى كذلك...من الممكن ان تصبح يومصا ما المرأة فيلسوفة."
إنّ اضطهاد المرأة وتعنيفها اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيّا واقتصاديًا لا يتوقّف عند جنسية أو هويّة معينة، بل تتوارثه المجتمعات غربية كانت أو عربية، ولا يمكن ألاّ نستحضر أيضًا مواقف الفلافسة من المرأة، إلى درجة أنّ أحدهم وهو أرسطو الذي كان يشجّع على خضوع المرأة للرجل وعلى الزوج الذي يمارس حكمًا سياسيًا على زوجته. ومن هذه المنطلقات ظهر حراك اجتماعي كبير يحمل مفهوم "الأختية"، الهدف منه التضامن الجماهيري النسائي الذي يكسر حدود الأزمنة والأمكنة انتصارًا لقضية المرأة.
ذاك الحراك الذي انطلق منذ القرن الثالث عشر وانتشر شيئًا فشيئًا في العالم، هل وجد صداه في تونس؟ وهل فعلا تراجع العنف ضد النساء في تونس كما تروّج لذلك بعض الأرقام التي تقول أنّه تراجع بنسبة 50 بالمائة؟ الكثير من التساؤلات التي تصطدم بشهادات عن العنف والاضطهاد...
تبدو لطيفة جدًا، هادئة وذات أخلاق عالية، على الأقلّ، من منطلق تصوري الشخصي عن الأخلاق. وتبدو أيضًا من الثّقات، فقبلت دعوتها لإحتساء فنجان قهوة، ورافقتها.
ولكن سرعان ما صعقت بسقوط كلّ أقنعتها بمجرّد دخولنا المقهى. تلك الهادئة صارت تضحك بأسلوب مقزّز ،وتلك اللّطيفة صارت متعجرفة في كلامها، وجريئة حدّ الوقاحة.
كانت تتّصل بأصدقائها من الذكور و تتوسّل بهم للقدوم ومشاركتنا السهرة، وتهمس بنفس الجملة مع كلّ اتصال: "أي والله هي معي..." شككت في الأمر في البداية ولكن كنت ساذجة إلى حدّ اعتقادي في استحالة أن تقوم امرأة بالحاق ضرر بإمرأة أخرى. وربّما كنت متأثّرة أيضًا بدراسة قرأتها قبل أيّام عن "الأختية" هذا المفهوم الذي يعبّر عن التآخي والتضامن والتكتّل بين نساء العالم انتصارًا لقضاياهم، مجابهة لكلّ أشكال الإضطهاد والعنف المسلّط على المرأة. ولكن قصّتي مع هذه البنت لا علاقة لها بهذه الأفكار النصالية المثالية.
لمّا لاحظت إصرارها لقدوم "ذكورها"...وبأسلوب شعرت أنّه مرَضيّ أكثر من كونها مجرّد دعوة عادية، اتصلت بدوري بصديق (مجاور لنا في السّكن)، ذلك استباقًا لأيّ مشكل قد يحصل معي بسبب سلوك البنت الغريب جدًا، على الأقل من منظوري الشخصي. وحضر هذا الجار ومن هنا بدأ منعرجًا جديدًا للقصة. فقد طلب مني مرافقته والانسحاب من جلسة "الجماعة". سألته: " كيف أترك البنت مع هؤلاء الذكور بمفردها؟ (وكنت إلى ذلك الوقت أعتقد في براءتها) ويجب أن أنتظر معها." فقام الصديق بجرّي إلى خارج المقهى قائلًا بغضب: "إنّك الآن تباعين وتشترين." استغربت واستنكرت كلامه، لم أكن حينها أعتقد فعلًا في وجود عصابات في المتاجرة بالنساء مثلما نقرأ على صفحات الجرائد اليوميّة. ولكن أخذًا بنصيحة الصديق غادرت مسرعة، وأنا لم أصدّق بعد بكلامه، إلى أن تفاجأت بالجماعة أي البنت والذكور الثلاث أمام مقرّ إقامتي بانتظاري.
نزل أحدهم من السّيارة وهاجمني قائلًا: "كيف تسمحين لنفسك بالذهاب؟ هذا تصرّف أطفال.." وأضاف مستنكرًا : "إن كنت غير مستعدّة اليوم ...فليكن غدًا..سأتركك على راحتك رغم أنّه موعدنا الآن ...فقد دفعت فيك عربون 40 دينارًا..."
في تلك اللّحظة نسيت حجمه الضخم ويداه الغليظتان وعمره وطوله وقوّته وسلطته، وتكلّمت بتلقائية المرأة التي لا تباع ولا تهان كرامتها: "ماذا تقول يا سيّد؟ وعن أيّ عربون تتكلّم؟ صحفية معك احترم نفسك." لا أعلم كيف نطقت بوظيفتي ربما وجدتها السلطة الوحيدة المعنوية التي قد أخيفه بها، وفعلًا نجحت في ذلك فقد ارتعب واهتز جسده الضخم مزمجرًا كأسد أضاع فريسته قائلًا: "ألست أنت الطالبة بجامعة؟...(ذكر اسم الجامعة)." ثم تراجع خوفًا من هويتي كصحفية ربما لو كنت طالبة فعلًا لجبرني.
أدركت حينها أنّ تلك "اللطيفة" ليست إلاّ عنصر في عصابة تتاجر بالطالبات. صحيح أنّني قد افلت من هذه الجماعة، ولكن الأمر رجّني وظللت أكرّر ذات الأسئلة: ماذا لو كانت مكاني طالبة، أي عنف كانت ستتعرّض له؟ ثم تساءلت كيف لامرأة أن "تبيع" امرأة؟ ما هي الحاجة التي تدفعها لإهانة نفسها والعبث بستقبل الطالبات؟ وأعتقد أن "سمسارة" النساء تلك قد تعرّضت ليلتها للعنف بسبب كذبتها. فيبدو أنّها قد أخذت منهم "العربون" دون أن تتمكّن إيجاد البنت قبل محاولتها استغلالي.
كتبت عن القضيّة آنذاك، وسعيت لنشرها بين الأصدقاء الصحفيين وبعض أجزاء المجتمع المدني. والصدمة أنّي في كلّ مرة كنت أسمع نفس التعليق السطحي: "تعلّمي ألاّ تثقي بأحد..." وذاك المثل الشعبي: "الباب اللي يجيك منو الرّيح سدو واستريح..." وكأنّ بالإشكال يتعلّق بي فقط. وما سمعت عن أي حراك قام بأي مجهود في اتجاه تخليص جزء من الطالبات من هذه العصابات التي تتاجر بضعفهن المادي، وتستغلّ احتياجهن للمرافق الأساسيّة لحياة كريمة.
تمرّ عشر سنوات عن تلك القصّة وما يزال جسد المرأة سبب أزمتها في علاقتها مع الرّجل، عفوًا، في علاقتها مع الذكر. فالمرأة جسد يشتهى ويتحرّش به ويغتصب في الشارع، والمرأة جسد يضرب، والمرأة جسد يستغلّ في العمل إلى أقصى حدّ ممكن. والمرأة جسد يخدم سي السيد في البيت والمرأة واجهة سياسية une vitrine.
وهذه الصّورة ليست إلاّ جزءًا صغيرًا جدًا من لوحة كبيرة جدًا ترسم آلاف الحكايا والقصص عن معاناة المرأة وتعنيفها. فتقول بعض الإحصائيات أنّ هناك قرابة مليار امرأة في العالم تعاني من ألم العنف وتبعاته.
في حديث جمعني مرّة مع عاملة تنظيف، قالت لي تلك الجملة الشهيرة أوّلًا: "احمدي الله على نعمة عدم الزواج." ثم أردفت قائلة: "ليس مثل حالتي، فكلّ تعبي من أجل "مصروف" سي السيد...إنه ينام نهارًا وفي المساء ينتظرني حتى يسلبني كلّ فلسي ومن ثمة يخرج للسهر وهكذا هي حياتي." وطبعًا بدأت "أنظّر" عليها قائلة:"لا تعطيه، واجهيه... تكلّمي بشخصية قوية." وفاجأتني: "ومن يربي ابنتي حين يذبحني." نعم لقد هدّدها لأكثر من مرة بالقتل، بل في أحد المرات كانت المسكينة مفلسة، فراح يركض وراءها بالسكين، ونامت في بيت الجيران خوفًا منه.
ولم يكن يكتفي بذلك، بل كان يحضر عشيقاته إلى البيت، وأحيانًا لا يخجل أن يدير علاقاته الجنسية أمامها. ومع ذلك تجبر المرأة على الصمت، و صمت المرأة على كلّ هذه المصائب وتحمّلها وراءه جملة واحدة بالدارجة وبالدارج في المخيال الشعبي التونسي: "مالها إلاّ بيت راجلها." و"صغارها شكون بيهم.."
إنّ التضامن والأختية التي تنتشر في العالم، ما زالت ممارستها محتشمة في تونس، ولا تتعدى حدود بعض "الخرجات"، حتى لا نقول عنها أنها مظاهرات. فالسائد لما تتعرّض مواطنة للاضطهاد لا يتم إخراج هذا الشخص وتحويله إلى قضية عامّة، إلاّ في حالة واحدة، تكون فيها هذه المرأة مشهورة أو معروفة، فحينها فقط تطلق الصفحات الفايسبوكية والشعارات، وتعرف صدى إعلامي أيضًا. ولكن مجابهة الاضطهاد الحقيقي تكون في مجابهة الممارسات اليومية البسيطة قبل المعقدة. لأنّ التفاصيل هي التي ترسم صورة واضحة عن العقلية المضطهِدة. هذه العقلية التي تسود المجتمع وتستضعف المرأة، هي ذات العقلية التي تضعف المرأة بها نفسها. فماذا يعني أن تدافع امرأة عن الزواج بأربعة؟ وماذا يعني أن تصرّح فنانة بكل فخر أنها تتمنى غسل ساق زوجها؟ وماذا يعني أن تعارض امرأة المساواة مع الرّجل؟
لعلّ الأختية في تونس تظهر أكثر في القضايا الشاذة، ولكن في القضايا الحقيقية، لا نرى إلاّ جزءًا منها، ونذكر هنا التضامن الجزئي مع نيرمين صفر عند نشرها قضية البويضات دفاعًا عن حق المرأة في الإنجاب، فرأينا حينها ملامح الأختية ولكن المسألة كانت مؤقّتة.
ينتقد الناس البرامج التلفزية التي تمرّر الحالات الاجتماعية، ويسخرون من هموم الناس، ولكن ولا مرة لاحظنا تدخّلًا جادّاً من منظمات تدّعي مناصرتها لقضايا المرأة. لقد تابعنا الزوجة التي تبكي وتترجى زوجها للعودة لها تحت كلّ الظروف، وتظهر عبودية له، وبدلًا من أن نقرّ تحركات من أجل تأهيل مثل هؤلاء النساء اللواتي تربّين على ثقافة سي السيد، وثقافتهن المحدودة تجعلهنّ عرضة للانتهاك والاستغلال، حين يتم تحويلها إلى مجرّد مادة إعلامية.
سوف يتم نشر الجزء الثاني من هذه المادة الأسبوع المقبل.