اقرأ الجزء الأول من المادة هنا.
في أحد الحصص التلفزية التي اشتغلت بها كمعدّة، استضفنا امرأة على خلفية تحرّش زوجها ببناته. كانت التفاصيل غريبة ومحرجة جدًا، فحاولنا احترامًا للمشاهد التكتم عن بعضها. ومع هذا فالفايسبوكيين، والذي فيه حتى من النخبة، هاجم البرنامج والمرأة وضغط عليها. وبدل من موافقة المرأة على إيوائها في مركز خاص حتى لا تجد نفسها مضطرة للعودة لزوجها. فإن المرأة تعيد بناتها إلى سفاحهن، بل أكثر من ذلك فقد غيرت أقوالها وكادت تشتكيني بتهمة تحريضها على زوجها.
والإشكال ليس في أمّ البنات، بل في ثقافة مجتمعية تفتقر إلى تضامن حقيقي من أجل المرأة، فالتضامن يظل حسب المصلحة حتى بين النساء. والدليل على ذلك ما حصل سابقًا مع عبير موسي مثلًا -ولنتنحّى جانبًا عن تصريحاتها وانتماءها السياسي- ولكن في نهاية الأمر هي امرأة تعرضت للسخرية والتنمر على أساس الشكل أكثر حتى من مواقفها. وتبخّر آنذاك جميع المناصرين لقضايا المرأة، ولم نسمع خطابًا واحدًا يقول: "انتقد مواقفها وليس شكلها وتفاصيل وجهها وساقيها..." فالسكوت في مثل هذه المواقف أيضًا تحفيز و"إنعاش" للصورة النمطية عن إهانة المرأة واستضعافها.
11 جوان 2023: في الكاف انقلاب شاحنة تقلّ عاملات فلاحة ووفاة امرأة سبعينية، 12 أوت 2022: في سيدي بوزيد انقلاب شاحنة ووفاة عاملة فلاحة وفي أفريل 2021 : في بنزرت انقلاب شاحنة عاملات فلاحة وإصابة 30 منهم، وفي الفحص كذلك، وفي غيرها من المدن التونسية يمارس الاضطهاد والعنف على المرأة العاملة بكلّ أنواعها...من معاملتها إلى هضم حقوقها.
وإلى اليوم مازالت الظاهرة متواصلة والنضال يكاد يغيب في هذا الاتجاه. فلا يتعدّى النضال حدود بيانات التنديد والرفض ومنابر تلفزيونية "تركب" على الحدث لكسب نسب عالية من المشاهدة. وتتواصل مظاهر التشغيل الهشّ للمرأة في كل القطاعات. فتميل المؤسسات الاقتصادية إلى تشغيل المرأة لاعتبارين يعكسان تمييز على أساس النوع الاجتماعي وفيه تقزيم: الأوّل يرى المشغّل أن المرأة يسهل استغلالها بساعات عمل كثيرة مقابل مبلغ مالي زهيد. أما الثاني يعتقد بسهولة ممارسة كل أشكال السيطرة والتسلّط والإهانة واعتماد أسلوب الترهيب مع المرأة حتى تستمر في عملها. يقول “ويل ديورانت”: ”إن الأفراد الذين مهدوا لتخريب البيوت بدون أن يشعروا هم أصحاب المصانع الذين أخرجوا النساء من منازلهن من أجل أن يزيدوا أرباحهم.“
بتاريخ 9 مارس 2022 نشرت المحررة الرئيسية ريم بن رجب :" نحن فريق موقع "جيم" المختصّ في قضايا الجندر والجنسانيّة (...) كنّا قد استقلنا من موقع جيم في شهر ديسمبر 2021 لأسباب سياسيّة عديدة ارتأينا نشرها للعلن كمحاولة منّا للمشاركة في الصراع ضدّ الاستغلال والهشاشة التي نعاني منها داخل الأوساط المهنيّة البديلة والتي تدّعي الإيمان بالمبادئ النسويّة والكويريّة. جيم هو موقع نسويّ كويريّ يعمل على إنتاج معرفة نقديّة مناهضة للمحتوى الهوموفوبيّ والذكوريّ لوسائل الإعلام السائدة، كان هذا الهدف الجوهريّ لمشروع آمنّا به وحملناه على أكتافنا وعملنا على تطويره والتعريف به. لم يكن جيم بالنسبة لنا مجرّد وظيفة بمعناها التقليديّ وإنّما كان حُلما وفكرة سعينا جاهدين وجاهدات كي تتحقّق في عالم عنيف وقبيح ينبذ الاختلاف والتعدّد. كنّا نحلم ببيئة عمل آمنة وغير سامّة ولكنّنا صُدمنا بممارسات تعسّفيّة وغير مهنيّة لا تليق بمشروع "بديل".
وأَضافت في ذات البيان: "تعرّضنا في جيم إلى عنف نفسيّ مُمنهج ممّا أفقدنا الثقة في قدراتنا وهو ما يتعارض مع مفهوم "الأختيّة" التي تحمل كلّ معاني التضامن والتآزر والألفة. جيم المساحة، جيم اللاّنمطيّة، جيم التي تسعى لخلق حوارات وأفكار بديلة، هي في الواقع غير قادرة على تطبيق هذه الشعارات داخليّا وعلى استيعاب أعضاء وعضوات فريقها وحثّهنّ على التطور أو اكتساب مهارات جديدة، بل ما برحت تثير القلق والشكّ في نفوسنا وفي المهارات التي راكمناها على مرّ السنين. هل من الممكن تصديق تلك الشعارات في ظلّ ظروف داخلية مُشابهة؟ أم أننا في نهاية المطاف نُعيد تدوير الأفكار الرأسمالية السامّة تحت عنوان مغاير؟" (البيان كاملًا مصاحبًا للمقال).
في الدراما التونسية، المرأة المعنفة والضعيفة هي الصورة التي "تنمّطها" الدراما و"تطبّع" معها. فبدل أن تكون بوابة مفتوحة على التغيير فهي تؤكد السائد، وتستحضره للأجبال الجديدة ومن الجمل المتكرّرة: "أرجع لدار راجلك ...مالو إلاّ راجلك." و"كان ضربك..." "الكلو منك"..."عيب راجل قدامك وانت تقول الكلام هذا..." هذه الجمل في حدّ ذاتها والتي تأتي على لسان امرأة في الدراما تعكس هذا الشعور بالدونية: "فأمام المرأة متاح للرجل كلّ شيء...ولكن على المرأة أن تقيس مشاعرها وأحاسيسها وحقوقها وكلّ عالمها على راحة الرّجل ومتطلباته منها حتى لو استلبها كرامتها.
كما سبق وأشرنا فقد تمخّض عن كل الألم الذي تعيشه المرأة جراء الاضطهاد بكلّ أشكاله حراك "الأختية" وهو التضامن الذي كسّر حدود الزمن والمكان لينتشر في كامل أنحاء العالم اعتبارًا لأنّ قضية المرأة واحدة، فتعتقد هذه الحركة أنّه مهما اختلفت الثقافات بين الدّول تظلّ قضايا المرأة واحدة.
تحمل هذه الحركة الضخمة شعار "الشخصي السياسي." تناضل النساء ضمن هذه الحركة في ترابط ودعم وانتماء لبعضهن البعض بإيمان منهنّ أنّ درجة قوّة الاتحاد هي التي تضمن لهن الانتصار لقضاياهنّ. رغم أنّه تاريخيًا يعود ظهور "الأختية" إلى منتصف القرن الثالث عشر، فيعتبر اليوم العالمي للمرأة من مظاهر التكريس للأختيّة. فكانت الأمم المتحدة قد أقرّت هذا اليوم سنة 1977 كإعلان عالمي لأهمية تضامن النساء مع بعضهنّ البعض. وكانت الحركة قد عرفت أوج نشاطها في بداية القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال نضال النسويات السود.
أما مؤسّسيًا، فيكون المعهد الدولي لتضامن النساء (SIGI) وهو منظمة دولية غير ربحية تأسست عام 1984م لتعزيز حقوق النساء محليًا، وطنيًا، إقليميًا ودوليًا، من أبرز المؤسسات التي تسهر على نشر مفهوم "الأختيّة" في العالم.
أمّا بالنسبة للدول العربيّة، فظهور الاختية مرتبط بثورات الربيع العربي وشبكات التواصل الاجتماعي التي سمحت بإيصال صوت المرأة العربية والاتحاد من خلال بعض المجموعات الفايسبوكية، التي وإن بدت محتشمة في أهميتها مقارنة للتحركات الغربية، فإنها على الأقل نجحت في إخراج صوت المرأة العربية للعلن، وأصبحت قضاياها تصل للإعلام والمنابر التلفزيونية.
ينص الفصل 5 من قانون أساسي عدد 58 لسنة 2017 مؤرخ في 11 أوت 2017 يتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة على أنّه :"تلتزم الدولة بوضع السياسات الوطنية والخطط الاستراتيجية والبرامج المشتركة أو القطاعية بهدف القضاء على جميع أشكال العنف المسلط على المرأة في المجال الأسري والمحيط الاجتماعي والوسط التربوي والتكويني والمهني والصحي والثقافي والرياضي والإعلامي، واتّخاذ التراتيب والتدابير اللازمة لتنفيذها."
وينص الفصل السادس من الباب الثاني الفصل 6: "تتخذ الدولة كل التدابير اللازمة للقضاء على كل الممارسات التمييزية ضد المرأة خاصة على مستوى الأجر والتغطية الاجتماعية في جميع القطاعات، ومنع الاستغلال الاقتصادي للمرأة وتشغيلها في ظروف قاسية أو مهينة أو مضرة بصحتها وسلامتها وكرامتها."
وينص الفصل 11 على التالي: "يُمنع الإشهار وبث المواد الإعلامية التي تحتوي على صور نمطية أو مشاهد أو أقوال أو أفعال مسيئة لصورة المرأة أو المكرّسة للعنف المسلط عليها أو المقلّلة من خطورته، وذلك بكل الوسائل والوسائط الإعلامية."
وقد تصل العقوبة السجنية الى 20 سنة، وأحيانًا المؤبّد، لمرتكبي العنف بالرجوع للفصل 208 .وقد وضع الرقم الأخضر المجاني 1899 للإصغاء لقضايا المرأة في العنف والإضطهاد. وفي سنة 2021 نشرت وزارة المرأة والأسرة وكبار السن كتيّب "مانيش وحدي" بالشراكة مع مجلس أوروبا، ضمنته كل المعلومات الضرورية واللازمة للمرأة لتمكينها من آليات الدفاع عن حقوقها.
ولكنّ هذه المرجعية القانونية والمؤسساتية لا يمكن أن تنجح بمفردها في مجابهة العنف والاضطهاد، بل يجب أن تتأسّس تكتلات نسائية في تونس ضمن ما يعرف بـ "الأختيّة"، تتحرّك في إطار جماعي يخدم كلّ النساء، وليس حكرًا على فئة دون أخرى، أو شخصية دون أخرى، وتكون هذه التكتلات مطالبة بإخراج أصوات المرأة التي تبكي بمفردها قي زاوية ما في جهة ما. فكلّ قضايا المرأة واحدة.
وحتى تنجح المرأة في نضالها من الضروري أولًا ألّا يكون كفاحها من أجل نظيرتها المرأة قائم على عداوة للرجل. فالتزامنا بمجابهة العنف والاضطهاد لا يجب أن يكون مبنيًا على النوع الاجتماعي، وإنّما على مبدأ حق الإنسان في المطلق في حياة كريمة وعدم الاعتداء على حرمته. يجب أن تكون الخاصيّة المشتركة في مناهضة العنف إنسانيّة الإنسان، وليس نوعه الاجتماعي.