بعيدًا عن الشعارات و"كليشيهات" المرأة واللغة المتكلّسة في تمجيدها كـ: "المرأة نصف المجتمع" أو تلك الجملة الشهيرة: "وراء كلّ رجل عظيم امرأة." وبعيدًا عن كلّ الخطابات التمييزية التي بالضرورة تقزّم الرجل بنيّة تضخّم كيان المرأة، بعيدًا عن كلّ ذلك نحن في حضرة "المرأة المنذورة إلى غاية عظيمة." ولا يمكن أن يتحقّق ذلك بيسر إلاّ إذا كنا وفي رحاب مؤسسة بحثية كمركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة الكرديف. إنّنا داخل مؤسسة تبحث في المرأة عن المرأة الأيقونة وليس خارجها، وتبحث داخل المرأة وتفاصيلها، عن إمكانات تأديتها لهذه الغاية العظيمة التي نستعيرها من رواية الأشياء لسمر سمير المزغني الأيقونة المحتفى بها في عضون الأسبوع الفارط بالكريديف.
هذه المرأة الأيقونة حسب رأينا هي المرأة المتمرّدة على الموجود، تترجم المنشود ولو خيالًا في كتاباتها، الثائرة فكريًا من خلال إنتاجاتها الإبداعية على اختلافاتها وهي المرأة التي لا تتغذى من هزائم الرّجل حتى تنتصر، وإنما تنتصر على كلّ المجتمع فقط بمنتوج علمي ثقافي أو فكري.
وسمر سمير المزغني المرأة الأيقونة التي تعود بعد عشرين سنة إلى نفس الفضاء الذي آمن بها وتبنى إبداعها – وهو طبعًا الكريديف- لتبثّ فيه من حيوات شخوصها الجديدة في كتابة إبداعية جديدة تتكلّم عن الأشياء وتمثلات المجتمع للأشياء. هل تغلّبت على أشياء أما العكس صحيح؟
إنّها تغازل عقولنا بأنسنتها للأشياء، وبنفس تلك الأشياء التي طالما اشتكينا من تشيئتها للإنسان. تربكنا حين تذكّرنا أننا قد نسقط في فخاخها وندمنها فنصير في سجنها. ولوتمعّنا قليلًا، سنجد أنّها تنتقم من الأشياء على طريقتها، وتمسخهم في شكل إنسان. وكم هو متعب أن تكون إنسانًا في هذا الزمن؟ وكم مرهق أن تكون إنسانًا في حضرة الأشياء؟
تتحدّث صاحبة الرواية عن مسيرتها في الكتابة وتشاركنا حوار استقراء روايتها "أشياء" في إطار لوحة ستحتفظ بها الذّاكرة وهي تجمع أجيال مختلفة من النساء المبدعات، شكّلها الك ريديف خلال اللقاء الذي دار في غضون الأسبوع الفارط حول الرواية الأخيرة: أشياء الصادرة عن دار محمد علي للنشر وتشكيل للنشر والتوزيع في طبعة أولى تمتد على 201 صفحة.
واللّوحة هي هذا الحوار بين الأجيال وهذا الامتداد والتواصل، الذي تحاول المديرة العامة للكريديف السيدة ثريا بالكاهية المحافظة عليه، ودعمه من خلال هذه اللقاءات. وقد كان لها كلمة إفتتاحيّة نوّهت من خلالها بالرواية الجديدة لسمر سمير المزغني قائلة: "إنّ سمر سمير المزغني فخر للمؤسسة وللمرأة التونسية." ونوهت بمسارها الإبداعي وهو ما أكدته أيضًا الأكاديمية سماح حمدي التي تولّت تقديم الرواية مثيرة عديد النقاط حول تجربة سمر، ودور نشأتها في بناء شخصيتها الفكرية والإبداعية. وحاورتها حول هذه التجربة التي نطّقت الأشياء وحوّلتها إلى شخوص. فقد حوّلت المزغني مواضيع الرواية إلى شخصيات تتحاور فيما بينها، وتتجاذب أطراف الحديث بكل تعمّق وتصعيد وكأنهم خبراء في مجالهم. فحبوب الإدمان والهاتف الذكي وغيرها من الشخصيات التي تعبّرنا عن حاضرنا وهو حاضر الإدمان والاحتياج للأشياء.
تنطلق سمر سمير المزغني في روايتها بهذه الجملة: "كنت سجينة صندوق خشبي معتم لسنوات طويلة. ولكن ذلك لم يبطل إيماني بأنّني منذورة لغاية عظيمة: أن أعكس على سطحي أمل الأرواح البائسة في الخلاص، أن أكون الخلاص. كان ذلك إلى حدود البارحة." وتنهي الرواية أيضا بذات الجملة: "ولكن ذلك لم يبطل إيماني بأنني منذورة إلى غاية عظيمة: أن أعكس على سطحي أمل الأرواح البائسة في الخلاص، أن أكون الخلاص. كان ذلك إلى حدود البارحة...". حركة دائرية تقرّب من خلالها حالة الإدمان للأشياء التي غالبًا ما تجعلنا نراوح مكاننا، ندور حول نفس الفكرة والسؤال رغم القناعة التّامة أنها منذورة لغاية عظيمة.
نحن منذورون أيضًا لغاية عظيمة حين نكون قرّاء "أشياء" لأنّها ستجبرنا على التساؤل والحيرة. فالرواية تحمل بعدًا نفسيًا فلسفيًا. حين تقرأ لسمر المزغني قد تبكي من شدّة الإعجاب أو ربّما الفرح، ليس سهلًا أبدًا أن تجد نفسك أنت الغريب عنها موضوعًا من موضوعات حكاياتها في رواية الأشياء. لأنّ الأشياء أشياؤنا نشترك فيها. أشياؤنا التي نتصارع معها من زمان حتى لا تشيّئنا ولا نتشيّأ داخلها. أن تستمع إلى داخلك مكتوب مفضوح في رواية بقلم سمر سمير المزغني فهذا يعانق جمالية الكلمة، ويجعلك تتعطّش لشدة الجمالية اللسانية إلى البحث عن الجمالية التي بداخلك. ربما لهذا السبب وفي مجالها الإبداعي سمر المزغني منذورة إلى غاية عظيمة. وهذا ليس بغريب عن كاتبة بدأت المسار مذ كانت طفلة. تقول عنها سماح حمدي: "هي صديقتي الصغيرة والكبيرة، هي تعطينا الأمل...الأم والوالد، سمر محظوظة بعائلتها بشموخ العراق والأم العراق...الأم في تونس وبلادها تحترق...تعيش الأم هاجس وطن وهموم كبيرة. وإذن احتكاك الطفلة بوالدتها أثر عليها، فلم تكن تستمتع إلى خطابات عادية...تلك الخطابات جعلتها تتبنى قضايا أمها وقضايا أطفال العراق، ومنها وسعت اهتمامها بأطفال فلسطين، وكانت قد أهدت كتب لأطفال فلسطين." هذا النضج المبكّر لسمر وتبنيها لقضايا كبيرة وهي صغيرة جعل والدتها تبكي كلّما قرأت لها كتابًا، لانّها كانت ترى الحجم الكبير للمعاناة داخل كاتبة بحجم صغير، فأنّى لهذا الجسد الضئيل أن يكتنز كل تلك المعاناة؟
(مقطع فيديو: شهادة الأم كنت أبكي كلما قرأت لسمر)
وفي مداخلة لها حول تجربتها وردًا على أسئلة الدكتورة سماح حمدي نوهت سمر بمجهود عائلتها والبيئة التي ربيت داخلها في تكوين شخصيتها. فسّرت دخولها إلى عالم الأشياء والبحث في تمثلات الناس لهذه الأشياء التي منها الحبوب المنومة والإدمان عمومًا بمختلف تمظهراته، فسّرته بالشخصية الاستهلاكية وهذه اللهفة على الاستهلاك وهي دائمًا كانت تحارب هذه النزعة لأنها من صاحبة هذه المقولة: "من الناس من رؤوس أموالهم في أموالهم، وبعض الناس رؤوس أموالهم في عقولهم. فاستثمروا في العقول." وبناءً على هذا الفكر نطّقت سمر سمير المزغني الأشياء: كيف نطقتها؟ الإجابة داخل "أشياء" نفسها.
جدير بالذكر أن سمر سمير المزغني كاتبة تونسية عراقية سجلت مرتين في كتاب غنيس للأرقام القياسية كأصغر كاتبة قصة قصيرة في العالم لسنة 2000 والكاتبة الغزيرة الإنتاج الأصغر بالعالم لعام 2002، وقد صدر لها 15 كتاب، فضلًا عن بحوث ودراسات أكاديمية، وأشيد بكتابتها في حفل توزيع جوائز نوبل لسنة 2000.