يستعد التونسيون لتوديع شهر رمضان الكريم ومعه يودعون موعدهم السنوي والوحيد مع الدراما التلفزيونية، والذي اعتادوا أن يجلب معه ضجة حول بعض الأعمال لأسباب متعدّدة.
هذا العام كان مسلسل "براءة" للمخرج سامي الفهري في قلب ضجة لم تهدأ، بسبب طرحه لقضية الزواج العرفي وتعدد الزوجات في إطار دراما الإثارة التي دأب عليها صاحب قناة الحوار التونسي، لأنها ترفع نسب المشاهدة بشكل كبير.
وأثار طرح الزواج العرفي جدلاً بين التونسيين على اختلاف انتماءاتهم وطبقاتهم ومستوياتهم الثقافية، وانقسموا في آرائهم بشأنه بين من يقول إن الطرح الدرامي لهذه القضية بعيداً عن الواقع التونسي، لأن مجلة الأحوال الشخصية حسمت فيه منذ العام 1956، وأقرت في فصلها الرابع أن الزواج القانوني المعترف به في تونس هو ذلك الذي يكون مثبتا بحجة رسمية. كما منعت المجلة تعدد الزوجات بموجب الفصل 18 منها.
واعتبر المنتقدون أن مخرج العمل وكاتبه سامي الفهري، وهو نفسه صاحب قصة المسلسل، يعيش في زمن غير الزمن الراهن الذي يعيشه التونسيون بإثارته لمواضيع من حقب تاريخية فائتة.
في المقابل يقول الداعمون إن الفهري عرّى واقع فئة من التونسيين، وإنه من الجيد رؤية قضايا مثل الزواج العرفي مطروحة في أعمال درامية.
يشار إلى أن وزارة العدل التونسية قد أعلنت عن إحصائيات أصدرتها سابقاً تشير إلى أن عدد قضايا الزواج العرفي المرفوعة في المحاكم قد تجاوز 1700 قضية، وبدأت هذه الظاهرة تبرز في تونس مع صعود التيارات الإسلامية مند العام 2011.
وناقش مسلسل "براءة" عرضياً على قضايا اجتماعية أخرى كالاستغلال المادي للفتيات العاملات في المنازل من قبل عائلاتهم، والإرهاب وضحاياه، والضغط المسلّط على الأبناء من قبل أوليائهم بسبب الدراسة، والمرأة المعنّفة، والانقطاع عن الدراسة.
وكانت نتيجة الطرح الهشّ لهذه الظواهر فوضى أفكار وقضايا في خضم البناء الدرامي للعمل، مقابل التركيز بشكل مكثف على ما يستفز المتفرج ويصدمه، وبالتالي رفع نسب المشاهدة وتزايد أرباح الإشهار كنتيجة حتمية لذلك.
وهذا ما أكّده سامي الفهري بنفسه، في حوار مع قناة العربية قبل أيام، حيث صرّح "أنا بائع محتوى ترفيهي" قبل أن يضيف موضّحاً: "أن أرفّه عنهم يعني أنه يجب عليّ أن أبكيهم وأضحكهم وأجعلهم يعيشون لحظات التشويق". وتابع الفهري: "كل عمل أنجزه إذا استجاب لهذه العناصر يعتبر عملاً ناجحاً".
وبعيداً عن الجدل الذي أثاره الزواج العرفي، ليس في المسلسل ما يستدعي الاهتمام والمتابعة على المستوى التقني، ففي "براءة" سامي الفهري غاب الانسجام عن الحبكة الدرامية، فكانت فصول القصة مقطّعة الأوصال ثم تمّ تجميعها بأسلوب افتقد إلى الترابط بشكل واضح وجليّ.
كما تم تغييب شخصيات رئيسية في عدد كبير من الحلقات، مثل ما حدث مع مريم التي تؤدي شخصيتها عزة سليمان، رغم أن دورها رئيسي وواحدة من أبطال ال مسلسل. نفس التغييب تمّ تسلّيطه على حنين التي تؤدي دورها فاطمة برتقيس، والتي لم تظهر إلا في منتصف المسلسل، رغم أن دورها كان محورياً في بقية العمل.
والسبب في ذلك أنها كانت منشغلة في أداء دورها في مسلسل فوندو للمخرجة سوسن الجملي، والذي بُثّ على نفس القناة، وهو ما صرحت به الممثلة بنفسها في حوار إذاعي. يدعو هذا الأمر إلى الاستغراب من تكرار حضور نفس الممثلين في أكثر من عمل ما يؤثر على حجم الأدوار التي يقومون بها، رغم أن الساحة الثقافية التونسية زاخرة بالممثلين المحترفين والمواهب الجديدة.
وبما أن الفرصة سنحت لذكر مسلسل "الفوندو"، فلا يمكن أن نتغاضى عن الكم الهائل من الإطالة والتمطيط في كثير من الأحيان، وهو ما يشترك فيه هذا العمل مع مسلسل براءة، إلى جانب ضعف الحبكة الدرامية والمبالغة في التلاعب بمشاعر الجمهور.
على شاشة قناة أخرى هي القناة الوطنية الأولى كان مسلسل "حرقة: الضفة الأخرى" للسعد الوسلاتي، وهو الجزء الثاني من مسلسل حرقة الذي بث الموسم الماضي وأحرز نجاحاً باهراً، بعيداً كل البعد عن التركيز عن الأغراض التجارية المبتذلة، ومن أفضل من الإعلام العمومي لتمرير مثل هذه الأعمال احتراماً لالتزاماته تجاه المشاهد.
وليس ضرباً من المبالغة في شيء عندما نقول إن مسلسل حرقة بجزأيه قد رفع تحدي الدراما التونسية عالياً بفضل جودته العالية في كل تفاصيل إنتاجه، حيث لامس سماء الإبداع في الإخراج وفي زاوية الطرح والسيناريو وتقنيات التصوير والمونتاج.
وأشاد الجمهور بهذا المسلسل وأبدوا إعجابهم باختيارات المخرج، وتقاسموا مقتطفات من حوار بعض الشخصيات، وعاشوا معها لحظات ضياعها وانكسارهما ويأسها وأملها، وقصصهم الحميمة التي لم تسقط في الابتذال.
وحاز "حرقة 2" الأربعاء على 9 جوائز في مسابقة الأعمال الرمضانية، التي أقامتها إذاعة الشباب من بينها: أفضل عمل درامي وأفضل إخراج وأفضل سيناريو وأفضل مونتاج وأفضل صورة.
هذا العمل المندرج في إطار الدراما الاجتماعية الهادفة دلّ على حس مجتمعي كبير لدى مخرجه، ومدى إحساسه بالمسؤولية تجاه هموم المجتمع التونسي. وظف لسعد الوسلاتي كل إمكانياته الفنية ليروي معاناة المهاجرين غير الشرعيين الواقعين في جحيم الضفة الأخرى من المتوسط ومعاناة عائلاتهم، كما صوّر الممارسات العنصرية المسلطة من التونسيين على المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، إلى جانب تصوير الحياة اليومية للعاملين في مصبات النفايات (البرباشة) والتعرض للتنمر والاستغلال والفقر والتهميش.
لم يستغل لسعد الوسلاتي المشاهد بالإصرار على إثارة عواطفه وإغراقه في السوداوية المباشرة ومشاهد الحزن والموت والابتذال، بل جعله يحس بما تحسه الشخصيات، معتمداً على الأداء الرائع للممثلين ولحظات الصمت ولغة العيون، عندما تعجز الكلمات عن أداء المعنى.
اختار الوسلاتي في مشاهد أخرى اللجوء إلى المونولوغ في لحظات غضب الشخصيات، مثلما حدث مع مجيد أمام مكتب موظفة الاستقبال في القنصلية التونسية ببالرمو أو خطاب صاروخ أثناء محاكمته.
وبعيداً عن الدراما، كان من ضمن الأعمال الرمضانية هذا الموسم سلسلات فكاهية هي "حب الملوك"، و"البالاص"، و"كان يا ماكانش 2"، حيث ناقشت كلها مظاهر وسلوكيات اجتماعية بأسلوب طريف وفكاهي خفيف. لكن المخرج عبد الحميد بوشناق، الذي حاكى المشهد السياسي الحالي في البلاد وانتقد السياسيين والحكام وقراراتهم وعلاقاتهم وطرق وأساليب الوصول إلى السلطة، ميّز بذلك عمله عن منافسيه رغم أن هذا الجزء الثاني لم يكن بنفس جودة ونجاح الجزء الأول.
ختاما، جدير بالملاحظة أن الأعمال الدرامية في تونس يرهقها رمضان- فرصتها الوحيدة للظهور بعد سبات عام كامل- فلا نفس لها لمجاراة عدد أيام هذا الشهر، فبعضها لم يصل إلى النصف الثاني من رمضان فيما البقية كانوا من من 21 أو 22 حلقة فقط.
ويبرّر المهنيون هذه الظاهرة بصغر سوق الدراما التونسية مقارنة بنظيرتها العربية، وبالتالي نقص الإمكانيات ما يؤثر على الإنتاج كمّاً وكيفاً. لكن أزمة الدراما التونسية ليست في ضيق أفق السوق فقط، بل إن أزمتها الحقيقية والكبرى هي في غياب الإبداع والجودة، وهي أزمة نصّ قبل كل شيء.