في مجتمع يستهجن على الرجل اللين والرحمة يربط انعدام الذكورة بغسل الصحون وكي الثياب! مجتمع يربط الجرائم بالشرف تأنيثًا، ويحيل الخيانات المُذكرة حماقة لا تُعيب!
يضيّق الخناق على النساء حتى داخل غرف المنازل ويوارب الباب على انتهاكات العُنف الممارس في البيوت يمتطي رجاله الأمثال الشعبية في سبيلهم نحو تحقيق رجولةٍ خلت من طابعها الإنساني وتخففت من مظاهر الأنوثة المُحرمة في هذا المجتمع المُشوه الغارق في نفاقه الاجتماعي ولدت أنا، وولد ميلاد..
وللحكاية نكهةٌ مُختلفةٌ دائمًا حينما يقصها ابن بلدك، ربما يعود الأمر لقدرتنا على الشعور بالانتماء لآلام أبطالها، فلابد أن يمتد خيطٌ سحريٌ بينك والكاتب متمثلاً في نُكتةٍ يدسها بين الأسطر كُنت قد ضحكت عليها يومًا، أو في أغنيةٍ تُشا طر بطل الرواية حُب كلماتها، أو في أحد أماكنك المُفضلة التي تُعرج على ذكرها الأحداث.. المهم أن حالة تواطؤٍ تصيبني دومًا مع الأدب الليبي "الجيد منه على وجه الدقة والخصوص"
ما بالكم لو كانت الحكاية تُناقش بمباشرة سافرةٍ ومستحبةٍ في آن، قضايا يكترث المرء لأمرها، بل ويرى ظلالها تطفو على واقعه اليومي أيضًا..
تحكي الرواية قصة ميلاد مُجسدًا تراكيبًا مُعقدةً، تعكس عقد الرجل الليبي النفسية التي نُفضل كمجتمع إبقاءها بعيدةً عن الضوء، ميلاد بإصبعه المُخضّب، وولعه بالموسيقى، بعاطفته الجياشة وقمصانه الملونة، برهافته التي تلامس الضعف أحيانًا، وعشقه الصوفي للخبز والخبيز يحاكي وجوهًا كثيرة تعاني من غربةٍ وجودية وصمها مُجتمعنا بالدياثة، وبقسوةٍ لا ترحم صنفها من الشخوص المنبوذة إجتماعيًا.
ميلاد الطفل الذي ترعرع في بيتٍ يعج بالنساء، والبخور، والحناء.. وكبر مُثقلاً بآمال أخواته الأربعة وأمه وأبيه بأن يتحوّل لوحشٍ يشبه وحوشًا كثيرةً من حوله تُسمى "بالرجّالة" إلا أن شغف ميلاد بطقوس أخواته النسائية وحنانه الذي شكل عنده رغبة دائمة في أن يشرك في عالمهن الخاص ساهم في تضاؤل تلك الآمال..
شبّ ميلاد على طقس التلصص على شاعرية والده التي لا تظهر مُطلقًا إلا إبان ممارسته حرفة الخبز، وفي لحظات تعري شغف أبيه المفضوح بالعجين التي كان يسترق ميلو النظر إليها تكوّن المحور الرئيس في حياته ليتحول لاحقًا لعنصر مؤثر في كل منعطفات الرواية، لنعيش معه وعجينه تبعًا تجارب تراوحت بين اليتم والحب والتجنيد الإجباري، والسفر والسُكر، ومحاولة الهروب بالموت من الحياة، لينتهي بنا الحال مصفقين "للاسطى" محمد النعاس على براعته في عجن حكايةٍ ماؤها التجربة الإنسانية، ودقيقها قسوة المؤتلفات.
تعدد الشخوص بالحكاية أضفى بُعدًا من الواقعية، ومسحةً من الإنسانية عليها، في شخصية "العبسي" ابن العم المُباهي بفحولته، وقدرته العجيبة على إبداء القسوة، وشغفه المُخزي بامتهان النساء نرى الصورة التي شبّ ميلاد حالمًا بأن يكونها "ممثلة الضد المعاكس لما هو عليه".
أما "زينب" حبيبة "ميلو" التي تعرفت في شقاواتها الطفولية، وحُزنها المتمرد، في توقها للحرية، وللتجربة، في مغامراتها الصغيرة، ووحدتها، وفي غضبها المائل للاستسلام لسوط جلادها "مُجددًا أحكام المُجتمع" تعرفت فيها على انعكاسي والكثير من النساء من حولي، ادهشتني قدرة النعاس على تلبس جبّة النساء الليبيات حد التعبير عن وجعنا بصدق يستعصي معه على القارئ أن يصدق أن الكاتب لم يكن امرأة!
ثمّ "صالحة" الأخت الكبرى بحنانها الاستحواذي، وخوفها المرضي، وتوجسها من الأسحار والأشرار، بطيبتها المشوهة، وشرها المتساتر بالطيبة، جاءت ممثلةً سطوة الشق الذكوري على كثيرٍ من النساء اللاتي وجدن في الرجعية سبيلاً أسلم للعيش في مجتمع كهذا.
أما على صعيد اللغة، تمتعت الرواية بفنيّات كتابية مضبوطة بإقاع دقيق تشي بحساسية الكاتب العالية تجاه لغته ظهرت بوضوح من خلال فضاءات الرواية الواسعة، وشاعرية حواراتها المونولوجية، وبنفسه السردي الطويل أجاد النعاس التمايع مع شخوص حكايته بمختلف أصنافهم البشرية، مما خلق سعة عالية سمحت بإظهار توليفةٍ سرديةٍ مُدهشة، وظِّفت لتعكس قضايا متباينة اجتمعت رغم اختلافها في وصمةٍ واحدة مشتركة، ذلك أنها تنتمي "للصنف المسكوت عنه".. ومتنقلاً بخفة بين التمييز الجندري، للعنصرية ضد العمالة الأجنبية، لازدواجيّة المعايير التي تتجلى بأقبح حالاتها في مجتمعنا الليبي، وصولاً لمناقشة أثر الوعي الجمعي وظلاله المُمتدة على التجارب الفردية حتى لأكثر الناس فرادةً في المجتمع.
مثريًا الحكاية بقبساتٍ من الأمثال الليبية المتوارثة، التي دسترها العرف حتى استقرت في الضمائر وأمست من المسلمات.. ليختم بذلك قص ته بمشهدٍ صادم تضرب فيه "العروس" تعويضًا عن تأخر ضرب "القطوس".
كما وجدت في الإطناب الذي عيّب على الرواية انتصاراً لكل الأطفال الذين صفعوا باكرًا "ليسترجلوا" ، ولكل الصغيرات اللواتي وئدن في الحياة بطريقةٍ أكثر عصريةً وأشد قبولاً، وفيه امتدادٌ لعزاء نساءٍ معنفاتٍ لا ينتهي.
أخيرًا ينبغي للنعاس أن يُعلق خرزة زرقاء، أو حوتةً صغيرة ربما! بعد مراجعتي هذه لأني أعترف بأني حسدته إبان قراءتي على الرهف الذي عُجنت به علاقة ميلاد بخبزه! ورغم أن لي طقوسًا خاصةً أثناء تحضير الأكل وخبز المعجنات، إلا أنه لا يمكن للمرء أن يتصور شاعريةً تربط خبّازًا بخبزه كتلك التي صورتّها لغة النعاس بأبهى ما يكون.