بينما نجد في الجزائر من يتفاخر بأنّهم بلد المليون شهيد ويتباهى العديد في موريتانيا بتلقيب بلدهم ببلد المليون شاعر، يعبّر عدد مهمّ من مستعملي مواقع التواصل الاجتماعي في تونس عن غضبهم، وإحباطهم تجاه الوضع الحالي بتلقيب بلدهم "بلد المليون بطّال" أو بلد المليون عاطل عن العمل. ولا يمكننا لومهم إذ أنّ نفس هذا الشعب الذي انتفض للمطالبة بالتشغيل في 2010 يعاني اليوم من نسبة بطالة تقارب الـ 18 بالمائة، في حين لم تفاوت الـ 15 بالمائة بين سنتي 2000 و2009. وعلاوة على هذا، تتعدد مظاهر الفساد والاستغلال في سوق الشغل اليوم إلى حدود لا يتقبّلها العقل.
تفاقمت في السنوات الأخيرة ظاهرة محاولات استغلال أصحاب الشهادات العليا في تونس...بين مهندسي فلاحة مبتدئين يرضون بالعمل على مشاريع لمدّة 3 أو 6 أشهر بمقابل 500 دينار دون أيّ ضمانات، أو عقود عمل واضحة، وبين الاستغلال الفاحش لخريجي معاهد التصميم والملتيميديا، وخريجي معهد الصحافة من قبل شركات الإنتاج السمعي البصري بتونس، يندم العديد من الشباب على سنوات شاقّة أمضوها في الدراسة في مجالاتهم، ويفضلون البقاء في المنزل على القبول بهذا الاستغلال، أو يغيّرون وجهتهم المهنيّة، ويحاولون المشاركة في تدريبات، والعمل في مجال لا يمتّ لشهادتهم بصلة. وتصل الوقاحة بالبعض حدّ التغلغل في مجموعات طلبة معاهد الهندسة ومعاهد العلوم التطبيقية والتكنولوجيا على الفايسبوك لنشر عروض عمل لتشغيل مهندسين مقابل 500 و600 دينار في الشهر. أصبح الاستغلال في تونس أمرًا طبيعيًا حتى وصلت الجرأة بأمثال هؤلاء للمجاهرة بمثل هذه الأجور.
ومن منا لم تعترضه شروط غير منطقية في عروض العمل من قبيل منصب بمستوى مبتدئ يتطلّب على الأقلّ شهادة ماستار و3 سنوات خبرة عمل في المجال مقابل أجر ضعيف؟ ونتساءل إن كانت هذه مزحة أم أنّ من كتب العرض معتوه، وينتظر فعلًا أن يقوم حامل لشهادة عليا في رصيده هذه سنوات من الخبرة بالقبول بمثل هذه الوظيفة، ثمّ نكتشف أنّ هذه ظاهرة بحدّ ذاتها، وأنّ معظم عروض العمل اليوم تتطلّب شروطًا مجحفة، ولا منطقية من هذا السبيل للدخول إلى وظائف يتمّ استغلالنا فيها أشدّ من البقر في مصانع الحليب.
أمّا إن صادف أن توفّرت فيك كلّ الشروط للتقدّم إلى وظيفة معيّنة وكانت هذه الوظيفة، بقدرة قادر، مناسبة ومثيرة للاهتمام، فإنّ فرص قبولك تعتمد عادة على معارفك وكميّة مساهمتك في منظومة الفساد، إلّا من رحم ربي بالطبع. ظاهرة الواسطة أو "الأكتاف" ليست جديدة في تونس، بل هي التي تسببت في معظم المشاكل التي نواجهها اليوم في سوق التشغيل بتونس بعد عقود من انتشار هذه الظاهرة في فترة حكم بن علي وحتى قبلها. ويخيّل لك أنّ هذه الظاهرة لا تنطبق إلاّ على شركات تونسيّة ومناظرات وطنيّة معيّنة، فتتفاجأ بوجودها ضمن فروع منظمات عالمية، وسفارات معيّنة، حيث ينشرون عروض العمل، وفي بعض الأحيان يقومون حتى باستدعاء بعض المترشحين لمقابلة، أو إثنين لأسباب إدارية وقانونية، في حين تمّ حجز هذه الوظائف لأشخاص معينين، سبق وتمّ اختيارهم قبل نشر العروض أصلًا.
يجد البعض منا لقمة سهلة في التحصّل على عمل من خلال تقديم رشوة، أو الاعتماد على واسطة، ويتوقّع البعض الآخر أنّ استغلال العاملين في شركته سيزيد من الأرباح وتنمية الشركة، ولكن ما عجز العديدون عن فهمه هو أنّ جميع مظاهر الفساد هذه تؤدّي إلى تعدد الأزمات الاقتصادية، وتزايد التضخّم، وانهيار مؤسسات الدولة. وحين يحدث كلّ هذا، لن تنفع أيّ كميّة من الفساد أحد.