يعتبر العديد كميّة الكتب المقروءة معيارًا في تحديد المستوى الفكري والثقافي للشعوب نظرًا لدور الكتب المهمّ كوسيلة للتثقيف، والتوعية وفتح العقول. ومن منا لم يستمع لأستاذ عربية أو تاريخ وجغرافيا يعبّر عن ازدرائه من انتشار الغباء والجهل في تونس لأننا لا نقرأ الكتب، متحججًا بانتشار الكتب في البلدان الغربية، ومعبّرًا عن فخره بمكتبات المشرق العربي من القاهرة إلى بغداد والشام؟ ومن منا لم يقرأ إحصائيات على مواقع التواصل الاجتماعي لا تحمل أي أساس علميّ تدّعي أنّ التونسي يقرأ ما يعادل نصف أو ربع صفحة في السنة؟
ولكنّ وضعيّة ثقافة الكتب في تونس تختلف كليًّا على أرض الواقع.
طبعًا لن يتناول هذا المقال دور وزارة الثقافة في النهوض بقطاع الكتب، فالجميع يعلم أنّ وجود هذه الوزارة رمزيّ بامتياز، وأنّها لا تساهم إلّا في تنظيم معرض الكتاب الدولي، الذي لا ينكفّ يخيّب آمال دور النشر والقرّاء كلّ عام، ولا ينفكّ يعوّل على المبادرات الشخصيّة لإحياء ما تبقّى من روحه. ما سيتناوله المقال في المقابل هو قدرة أفراد، ومجموعات، ودور نشر على المساهمة في انتشار ثقافة، وحبّ الكتب في غياب شبه تامّ للدولة.
بشكل أو بآخر، يجد القرّاء التونسيون مجالًا لمشاركة شغفهم مع الآخرين، وللنقاش حول الكتب التي أثّرت فيهم، من مجموعات الفايسبوك مثل "اقرأ تونسي"، و"قرّاء بلا حدود"...إلى نوادي المطالعة مثل: "نادي عشاق الكتب ببنزرت"، و"مدينة بوك كلوب". ويوجد حتّى من تمكنوا من تأسيس جمعيّة لمشاركة حبّهم للكتب مع كلّ من يشاء الانضمام كـ“عشاق الكتب بسوسة".
ثمّ نجد مبادرات شخصيّة كفتح قناة على اليوتيوب أو الإنستغرام للحديث عن الكتب، أو تحديات القراءة، أو لمشاركة قائمة أقرب الكتب إلى قلوبهم، أو زيارتهم لمعارض الكتب. أمّا من يقومون بتحميل فيديوهات على اليوتيوب، أو من يسمّون "بوكتيوبرز" فنجد منهم قناة "سيريال ريدر/ ليزوز أون سيري" لسونيا بن باهي، طبيبة تعشق الكتب وزوجة الكاتب سامي مقدّم، حيث تحدّثنا عن الكتب التي أحبّتها وتقدّم اقتراحات لمختلف الأذواق، إضافة إلى تحليلها، ونقاشها لعديد المواضيع المهمّة في مجتمعنا.
وأمّا من يعتمدون منصة الإنستغرام أو "البوكستاغرامرز" فتتنوع وتتعدد اهتماماتهم، والمواضيع التي يطرحونها من "أوثيلو ريدر"، و"أمل بوكز" إلى "سيف الدين عياد"، و"محمد عرقوبي"، والعديد من الآخرين.
كذلك نجد من المثير للاهتمام مبادرات بعض دور النشر للنهوض بقطاع الكتب من المسابقات، والجوائز إلى تنظيم الملتقيات، وتوفير تخفيضات من وقت إلى آخر. لكن لعلّ أبرز المبادرات كانت "روايات الجيب التونسية" لدار النشر "بوب ليبريس"، وهي أول مشروع سلاسل جيب للشباب بتونس، يهدف إلى تحويل القراءة إلى متعة، وعادة في صفوف شبابنا. وفّر هذا المشروع إلى حدّ الآن سبعة سلاسل و22 عنوانًا مختلفًا.
يبقى الكتاب في يومنا هذا، وسط الكمّ الهائل من المعلومات، والمغالطات المتوفّرة بفضل الانترنت، أفضل وأنجع وسيلة للتثقّف، والتعلّم، والاستفادة. وضمن كلّ ما نتلقاه اليوم من أخبار مؤسفة، وكلّ ما نعانيه من أزمات، تمثّل كلّ هذه المبادرات، ومئات أو آلاف محبي الكتب في تونس بصيص أمل نحو مستقبل أفضل، ومجتمع واع، وعقول متفتحّة.
كتب عباس محمود العقاد في كتابه عبقرية محمد: "أحب الكتاب، لا لأنني زاهد في الحياة، ولكن لأن حياة واحدة لا تكفيني." فلعلّ الكتب منفذ إلى عوالم أخرى وثقافات مختلفة وفرصة، لا فقط للهروب من الواقع الممل من حين إلى آخر، وإنّما للتعرّف على معنى جديد للحرية، فتطفو بعقلك دون أغلال، وقيود السياسات العالمية، والتأشيرات.