تكشف الأنثروبولوجيا وعلم الآثار أن المجتمع البشري يمكن أن يتخذ أشكالًا لا تعد ولا تحصى، والتي يمكن أن تعلّمنا كيفية بناء مجتمع حديث أكثر مساواة ومرونة واستقرارًا.
من السهل أن تصاب بالإحباط بشأن مستقبل المجتمع البشري في مواجهة سيل الأخبار السيئة، ولكن هناك سببان يدفعاننا للإيمان بأن التغيير نحو الأفضل أمر ممكن. أولًا، التغير الاجتماعي الهائل الذي حدث في الماضي القريب، حيث يعيش عدد أكبر من الناس في المدن أكثر من أي وقت مضى. في العديد من البلدان، أصبح بإمكان النساء الآن التصويت، وأن يتقلّدن منصب رئاسة الحكومة. كما يُنظر للتعصب الصريح وخطاب الكراهية على أنه غير مقبول أكثر من أي وقت مضى، وأصبح الفقر وسوء التغذية أقل شيوعًا. يتزايد الدعم لاتخاذ إجراءات صارمة بشأن تغير المناخ، بالإضافة لوسائل التواصل الاجتماعي المتوفرة للجميع. سواء وافق المرء على كل هذه التغييرات أم لا، فقد حدثت، وبسرعة.
ثانيًا، تكشف الأنثروبولوجيا (علم الإنسان والعلاقات الشخصية) وعلم الآثار أن المجتمع البشري يمكن أن يتخذ أشكالًا لا تُعدّ ولا تحصى. يقول ديفيد وينجرو -من جامعة كوليدج لندن: "هذه الظاهرة أمر مربك وملهم في نفس الوقت." يعتقد وينجرو أن تنوع أشكال المجتمعات الماضية يفتح إمكانيات لإعادة تشكيل مجتمعاتنا الحديثة. وتوافقه الرأي ستيفاني كرابتري -من جامعة ولاية يوتا- وتقول: "يمكننا النظر إلى الماضي باعتباره تجارب للاستدامة، ولهياكل الحوكمة. ما علينا فعله هو التجريب لجعل الحياة أفضل."
إذن ما الذي يمكن أن نغيره؟
يقول أدريان جايجي من جامعة زيوريخ بسويسرا: "الأمر الجديد إلى حد ما هو درجة العنصرية والقمع الممنهجين التي أصبحت متغلغلة في بعض مجتمعاتنا." على مدار تاريخ تطور البشرية، لم يحظَ الناس بفرص لقاء أشخاص مختلفين عنهم لدرجة اعتبارهم من عرق مختلف. بالطبع، قامت بعض مجتمعات الصيد وجمع الثمار باستعباد الناس وأساءت معاملتهم بالتأكيد، لكن المجتمعات الحديثة أخذت التجريد من الإنسانية إلى مستويات جديدة من الانحطاط.
ويضيف جايجي: "بالنسبة لسياسات الولايات المتحدة بقمع السود بشكل ممنهج، خاصة إذا ما عدنا إلى أيام العبودية وجميع القوانين التي تلت ذلك، أعتقد أن تلك كانت ظاهرة جديدة إلى حد ما - ظاهرة يجب التخلص منها."
المرونة والقدرة على التكيّف
من جهة أخرى، تبدو بعض التطورات الاجتماعية الحالية رجعيّة عند مقارنتها بحياة أسلافنا. وينطبق هذا بشكل خاص على مجال الزراعة، فتميل المجتمعات الحديثة إلى الاعتماد على المحاصيل الأحادية التي توفر تنوعًا أقل في مصادر الغذاء مقارنة بالمجتمعات السابقة.
تقول إيمي بوجارد من جامعة أكسفورد: "هذا ما يجعل الزراعة (جزئيًا) أكثر عرضة لجميع الظواهر الحديثة التي تقلق المزارعين، مثل التغير المناخي، وأنماط الطقس، والتقلبات في توفر العمالة في الأوقات الرئيسية من الدورة الزراعية". بشكل عام، من الضروري أن نجعل أنظمتنا أكثر مرونة. ولكننا بحاجة إلى الحد من تغير المناخ، لأن تطور الزراعة وظهور مجتمعات معقدة لم يصبحا ممكنين إلا عندما استقر المناخ قبل حوالي عشرة آلاف سنة عند فجر "الهولوسيني" وهو عصرنا الجيولوجي الحالي.
يقول بوجارد: "ما يميز عصر الهولوسيني هو الاستقرار". وقد حدثت بعض التحولات المناخية آنذاك، ولكن بشكل أصغر مما كانت عليه في العصور السابقة. ويضيف: "ما يجعل الأزمة الحالية مخيفة للغاية هو إدراك أنها تدمر الاستقرار الذي أوصل البشرية إلى هنا على مدى العشرة آلاف عام الماضية."
قدّرت دراسة جديدة الوضع المناخي المثالي للمجتمعات البشرية، وخلصت إلى أن 9% من الناس قد أُجبروا بالفعل على الرحيل بسبب تغير المناخ ــ مع احتمال خروج ما يصل إلى 39% من البشر بحلول نهاية هذا القرن. كما وجدت دراسة ثانية أن درجات الحرارة المرتفعة يمكن أن تدفع الناس إلى الهجرة. عامل آخر مثير للقلق ألا وهو توازن القوى في العديد من المجتمعات الحديثة. في حين أن التراتبية الهرمية قد تكون أمرًا لا مفر منه في المجتمعات المعقدة واسعة النطاق، إلا أن كي ينجح المجتمع، يحتاج الناس للثقة بهذه التراتبية. تقول جنيفر خان، من كلية ويليام وماري في فيرجينيا: "إن وجود هذا النوع من العقد الاجتماعي بين من هم في السلطة وأولئك الذين لا يملكون السلطة هو أمر مهم للغاية". ويتطلب ذلك تسطيح التسلسل الهرمي قدر الإمكان من حيث السلطة السياسية والثروة.
يقول جايجي: "أعتقد أن علماء الاقتصاد متفقون إلى حد كبير على أن وجود قدر كبير من التمييز وعدم المساواة في الثروة يجعل المجتمع غير فعال." ويضيف: "يعتبر ذلك أمر جيد بالنسبة للمترفين الذين يستحوذون على ثلثي ثروات البشرية وهم يشكلون 1 في المائة فقط، لكن في مرحلة ما يتوقف الأثرياء عن الاستثمار في المجتمع ككل. وبالتالي يتحصل المجتمع على عدد أقل من المنافع والخدمات العامة مثل نظام المدارس العامة".
العدالة هي الحل
من الطبيعي أن التفاوت في الثروة يؤدي أيضًا إلى زعزعة الاستقرار السياسي. وفي هذا القرن، سوف يجلب تغير المناخ تحديات هائلة، بما في ذلك تدمير البنية التحتية والهجرات الجماعية. في الماضي، عندما واجهت بعض المجتمعات تحديات بيئية، تمكنت من التغلب عليها، بينما لم تتمكن مجتمعات أخرى من ذلك. يقول تيموثي كوهلر من جامعة ولاية واشنطن: "يمكنهم التغلب على هذه التحديات بشكل جيد إذا لم تكن مستويات عدم المساواة في الثروة مرتفعة للغاية". "لا مفر من الاضطرابات الاجتماعية والعنف في ظل وجود هذا التفاوت الهائل في الثروات."
قد يكون إدراك حقيقة أن البنية الاجتماعية البشرية أكثر مرونة مما كنا نعتقد هو أمر ملهم، لكن ليس من الواضح كيف يمكننا تغيير ذلك على الأرض. أما وينجرو فيقدم قاعدة أساسية لبناء مجتمع أفضل: "الميزة الأولى والأكثر أهمية بالنسبة لإنشاء مجتمع عادل هي أنه لن يتم تصميمه بواسطتي أو بواسطة أي شخص آخر. بل أعتقد أن المجتمع الأكثر عدالة ومساواة لا يمكن أن يتحقق إلا عندما يُمنح الناس الحق في اتخاذ قرارات جماعية حول ما يقدّرونه حقًا في الحياة، ومن ثم منحهم إمكانية الوصول إلى الموارد المادية التي تجعل من الممكن توزيع تلك القيم الحقيقية على أوسع نطاق ممكن."
وهذا أمر صعب، ولكن هناك المزيد. قد يتعيّن علينا أيضًا توسيع مفهومنا لماهية المجتمع. وفي إشارة إلى أن المشاكل التي نواجهها الآن غالبًا ما تكون على نطاق عالمي، يرى كوهلر أننا ما لم نوسّع مفاهيمنا عندما يتعلق الأمر برؤيتنا للمجتمع، فإننا نُعدّ بيئة خصبة للمشاكل. ويضيف: "سوف يصبح العالم مكانًا يستحيل العيش فيه طالما نقسّم العالم لـ"نحن" مقابل "هُم"، طالما نصرف النظر عن حقيقة أننا جميعنا كتلة واحدة مترابطة، وبالتالي يجب مساعدة ودعم بعضنا البعض."
تمت ترجمة هذه المادة من على موقع نيو سايانتيست.