عندما تعتريك الرغبة في معرفة تاريخ تأسيس مهرجان قرطاج الدولي، ستجد أن هذا الحدث يعود للعام 1964، وهو تاريخ انطلاقته الرسمية تحت إشراف وزارة الثقافة التونسية.
لكن في حقيقة الأمر هذا المهرجان العريق تمتد جذوره إلى ما قبل ذلك سنوات عديدة وتحديدًا إلى بدايات القرن العشرين عندما اكتشف بالصدفة عالم الآثار الفرنسي لويس كارتون، الذي قاد الحفريات في عدد من المواقع الأثرية التونسية في نهاية القرن التاسع عشر، في 4 مارس 1906 أن صدى الصوت بين أطلال المسرح الأثري كان بجودة عالية فبدأ التفكير في أفضل السبل لاستثمار هذه الخاصية الفريدة لمصلحة هذا المعلم الأثري القيّم.
من هنا جاءت الفكرة لكارتون بأن ينظم حفلة في هذا المعلم الأثري، من أجل لفت الانتباه إلى وضع الموقع الأثري بقرطاج الذي بدأ الزحف العمراني يغزوه ويهدد وجوده.
كما أراد العالم الفرنسي أن يرفع منسوب الوعي لدى التونسيين بأهمية الحفاظ على إرثهم التاريخي العريق من خلال إبراز القيم ة الثقافية والتاريخية للمسرح الروماني بقرطاج. ومن هذا المنطلق وانسياقًا مع هذه الفلسفة تم تنظيم أول تظاهرة ثقافية بهذا المعلم التاريخي في 27 مارس 1906 تم تأثيثها بعرض للباس القرطاجني إلى جانب عرض مسرحي.
بعد ذلك بسنوات عديدة قررت بلدية قرطاج وهيئة السياحة المحلية تنظيم مهرجان مصغر يمتد على يومين وكان ذلك سنة 1961 عندما تم تقديم نسخة معرّبة من مسرحية "الذباب" لجون بول سارتر. وأمام نجاح هذه التجربة تقرّر تكرارها لسنتين متتاليتين مع تمديد أيام التظاهرة لحوالي أربعة أيام. وكان من بين العروض التي قدمت على ركح المسرح الأثري بقرطاج في تلك الفترة مسرحية "كاليغولا" لألبير كامو من تقديم الفنان المسرحي المعروف علي بن عياد.
وفي خضم الزخم الذي شهدته الساحة الثقافية في تونس إبان الاستقلال أخذت وزارة الثقافة آنذاك زمام المبادرة بإشرافها على هذا المهرجان منذ العام 1964 ليكون ذلك هو التاريخ الرسمي لانطلاق مهرجان قرطاج الدولي بالشكل الذي نعرفه اليوم.
وهكذا شيئًا فشيئًا، بدأ هذا المهرجان التونسي بطابع دولي مؤكّد يذيع صيته بأصداء إيجابية في الأوساط الثقافية ليس العربية فحسب، بل حتى العالمية، خاصة أنه استقطب أسماء لامعة في سماء الفن إقليميًا ودوليًا، وبات فرصة يتسابق أبرز النجوم لاقتناصها. بكل هذا التاريخ وحيثيات النشأة بات مهرجان قرطاج الدولي أعرق المهرجانات العربية والإفريقية، وباتت تجربة الوقوف على هذا المسرح الأثري العريق مبعث فخر لأي فنان ونقطة قوّة في مسيرته.
وليس في طابع العراقة فقط تكمن أهمية مهرجان قرطاج الدولي، بل لأنه وبالنظر إلى ظروف نشأته وسياقها التاريخي على اعتبار أنه حمّال لرمزية خاصة، وهو الذي تأسس في ظل دولة الاستقلال الفتية التي أقرت إستراتيجية ثقافة وطنية تقوم على الانفتاح على ثقافات العالم. وهذا ليس بغريب عن تونس التي عرفت طيلة تاريخها تعاقب حضارات عديدة ومختلفة.
وتترجم هذا الانفتاح على ثقافات العالم عندما احتضن ركح المسرح الأثري بقرطاج كوكبة من أهم الفنانين العرب وعلى رأسهم أم كلثوم وعبد الحليم ووردة ووديع الصافي وفيروز ونجاة الصغيرة وميادة الحناوي.
ولا يمكن أن نهمل ذكر المسرحيات التي باتت مرجعًا فنيًا هامًا مثل مسرحية "كاسك يا وطن" لدريد لحام، إلى جانب هؤلاء لطالما استضاف المهرجان نجومًا عالميين مثل: شارل أزنفور وداليدا وجو كوكر وإيروس رامازوتي وغيرهم كثر.
وطبعًا دائمًا ما كان مهرجان قرطاج الدولي فاتحًا ذراعيه لاحتضان سهرات الفن التونسي التي أحياها فنانون خالدون منهم: الهادي الجويني ونعمة وعلية ومحمد الجموسي وعلي الرياحي وآخرون. وللأجيال اللاحقة نصيب من أبرز الحفلات الناجحة التي استمتع بها جمهور المهرجان كتلك التي أحياها كل من صابر الرباعي ولطيفة ولطفي بوشناق وأمينة فاخت وذكرى وصوفية صادق.
كل ما مثله مهرجان قرطاج الدولي جسدته الهوية البصرية التي تم تعديلها العام الماضي لتصبح شكل حصان مكون من كلمة قرطاج مكتوبة بالعربية بشكل الحروف الفينيقية.
هكذا هي تونس، وهكذا هو قرطاج..مزيج من الفنون من مسرح وكوريغرافيا وغناء وعروض ألعاب سحرية وعروض فن شعبي وحفلات لمغنيين غربيين. هذا بالضبط ما يعنيه التنوّع الذي يشكل هوية المهرجان ومن ورائه هوية بلاد بأكملها. فسيفساء متكونة من قطع مختلفة الأحجام والألوان يلتصق بعضها ببعض في انسجام مبهر لتكوّن في نهاية الأمر لوحة جميلة عنوانها التنوع وقبول الآخر مهما كان مختلفًا من أجل إثراء الزاد الثقافي.
تدرك تونس أهمية زادها الثقافي الثري والمتنوّع. كما تعي جيّدًا الأسس التي عليها بنيت هويتها، لذلك هي تسعى للاحتفاء بها (الهوية التونسية الأصيلة) باستثمار تاريخ مهرجان قرطاج الدولي الذي لاسمه وقع خاص مرتبط بعراقة هذه التظاهرة ورمزيتها.
ودأب المسرح، الذي تم تعديله في مناسبات عديدة لتصبح طاقة استيعابه 12 ألف متفرج، طيلة سنوات عمره الممتد على أكثر من نصف قرن من الزمن، على تلبية كل الأذواق على اختلافها فيمكن لمحبي اللون الطربي أو الشبابي أو الغربي أو جمهور المسرح أن يجدوا جميعهم ضالتهم في البرمجات السنوية لمهرجان قرطاج الدولي.
وهذا العام تبلغ هذه التظاهرة العريقة دورتها السادسة والخمسين التي افتتحت في 14 جويلية بعرض "عشاق الدنيا لعبد الحميد بوشناق" المستوحى من الدراما الرمضانية التي لاقت نجاحًا استثنائيًا منذ حوالي ثلاث سنوات خلت. وبقيت الدورة الحالية وفية لفلسفة إرضاء كل الأذواق، فتمت برمجة سهرات لنجوم عرب منهم نور مهنا وشرين وراغب علامة وفرقة "قناوة". كما يضم برنامج المهرجان حفلات لفنانين غربيين على غرار زاز وألفا بلوندي وفرقة "بيغ" الكورية الجنوبية.
والغلبة في برمجة الدورة الحالية للفن التونسي، فسيعتلي الركح الأثري للمهرجان العتيق فنانون تونسيون من أجيال مختلفة مثل صابر الرباعي وبلطي ولمين النهدي وزياد غرسة. وراوحت البرمجة الحالية بين عروض المسرح والرقص والألعاب السحرية والحفلات الغنائية والكوميديات الموسيقية.