بين الطرقات الوعرة والحالة المتردّية للبنية التحتيّة في المناطق الفلاحية، وبين إسراع سائقي الشاحنات لتفادي الملاحقات الأمنية، وامتطاء عشرات النساء في مؤخرة العربة متشبثات ببعضهن البعض حتى لا تقع إحداهن، تفنى نساء بلادي في سبيل ما لا يمكن حتى اعتباره قوتاً يومياً، إذ أنّ بعض الدينارات التي تحصّلنها يومياً لا تكفي في معظم الأحيان لتوفير عيش كريم لهن ولعائلاتهن. ثمّ تأتي وعود الحملات الانتخابية الفارغة وتسنّ قوانين غير قابلة للتطبيق لتزيد على الطين بلّة.
47 امرأة من العاملات في القطاع الفلاحي لقين حتفهنّ، وأكثر من 600 أصبن في حوادث متعلّقة بالنقل العشوائي للنساء في السنوات الأخيرة، ولا زالت وضعيّتهن على حالها، أو لعلّها تتردّى أكثر وأكثر مع مرور الوقت. تنهض المئات منهنّ كلّ يوم قبل الفجر، فتلتف كلّ منهنّ بما لها من ثياب رثّة لتنتظر قدوم عربات النقل في البرد القارس، ثمّ تقفز فور قدوم العربة آملة في الحصول على مكان شبه مريح. وإن امتلأت العربة حدّ الخطر ورفض السائق أخذها معه، تصرخ وتهدده حتى يسمح لها بالصعود، فأغلبهن يفضلن الموت على الطريق على أن يعدن إلى المنزل جارّات أذيال الخيبة دون قوت لصغارهن.
وفي بلد نفتخر فيه بريادتنا في مجال حقوق المرأة في العالم العربي، تتناسى الطبقة السياسية النساء اللاتي يمثلن 80 بالمائة من العاملين في القطاع الفلاحي، ويعانين من التهميش، وتفاوت الأجور بينهن وبين الرجال، وغياب التغطية الاجتماعية، وتعددّ الانتهاكات والظروف الصعبة، حتى يقترب موعد الانتخابات. فينهمر السياسيون عليهن بالوعود الزائفة وحملات توزيع المقرونة والشوكوطوم وزيارات "سي فلان وسي فلتان" للعب دور القدّيس أنطوان، حلّ على هذه الأرض لمباركة المعوزين والتعساء. ثمّ فور حصولهم على المناصب، تنهمر جهودهم في حماية مصالحهم الشخصية وتسويق صورة المرأة التونسية المتحررة مضمونة الحقوق، القدوة للنساء العربيات. فعن أية حقوق وحريات يتحدثون؟ الله أعلم.
وحتى بعد أن تكرّمت الطبقة السياسية وأنعمت علينا بسنّ القانون عدد 51 -المتعلق بإحداث صنف نقل للعاملات والعاملين بالقطاع الفلاحي- لم يتطلّب تحفيزهم إلاّ وفاة 12 عاملاً وعاملة فلاحية في فاجعة السبالة من ولاية سيدي بوزيد. تبقى قابليّة هذا القانون للتطبيق على أرض الواقع شبه منعدمة، فهو لا يأخذ بعين الاعتبار علاقات العمل، والعلاقات الاجتماعية في الوسط الفلاحي، والحالة المتردية للبنية التحتية. ثمّ إنّ الشروط المجحفة في كراسات الشروط المتعلّقة بالعربات المعدة للنقل، والإجراءات المعقّدة تحول دون الاستثمار في هذا الصنف من النقل، فيبقى القانون حبراً على ورق ووسيلة لتلميع صورتنا كالعادة.
لكن على الرغم من الغياب التام للدولة لحماية النساء العاملات في القطاع الفلاحي من النقل غير الآمن، يبقى بصيص أمل في شكل جمعيات نسوية كجمعيّة أصوات نساء، إضافة إلى منتديات ومنظمات محلية وعالمية تدافع بشراسة عن قضية هاته النساء، وتمنحهن فرصة التعبير في عدد من المؤتمرات للمساهمة في البحث عن رؤى وتصورات، وحلول للحد من انتهاك حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية. مبدئياً تتلخّص الحلول الممكنة في الدفع نحو تمكين النساء اقتصادياً من خلال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ودعم الشباب لتشغيل العاملات في إطار منظم يضمن نقلاً آمناً لهنّ، وكذلك هيكلة القطاع الفلاحي من خلال تكوين نقابات تدافع عن حقوق العاملات الفلاحيات.