لو قررنا يوماً أن نخرج إلى شارع من شوارع هذا البلد، ونسأل المارة أن يعدّوا لنا الثورات والانتفاضات التي حوتها هذه الأرض، لما سمعنا غير الحديث عن ثورة الرابع عشر من جانفي 2011. وكأن تونس بلد الانتفاضات على المستعمر والغازي وبلد الثورات على الحكّام لم يدوّن في سجلات تاريخها سوى ثورة الياسمين. فثورة صاحب الحمار في عهد الفاطميين أصبحت نسياً منسياً، وانتفاضات الأهالي ضد "السبنيور" و" الفرنسيس" لم يبق لها ذكر وغيرها من التحرّكات الشعبية التي عرفتها البلاد على مرّ الزمن و العصور.
نسعى في هذا المقال أن نفتح صفحات التاريخ لنعيد اكتشاف واحدة من أهم الانتفاضات التي شهدها التونسيون وانقسمت آراءهم حولها، حديثنا عن ثورة علي بن غذاهم أو ثورة المجبى، فما هي هذه الثورة، ومتى اندلعت، ماهي أسبابها وكيف كانت مآلاتها؟
لنعد بك عزيزي القارئ لسنة 1864 ميلادي، 17 سنة قبل الاحتلال الفرنسي لتونس، عناوين المشهد حينئذ: الفقر، والتهميش، والطبقية المتفحّلة، وحكم جبري مستبدّ يقوده محمد الصادق باي من قصره الذي نسي فيه مشاغل البلاد والعباد تاركاً القيادة –ولو دون قصد- إلى وزيره مصطفى خزندار، الوزير الذي كانت له من الخطايا والزلّات ما لأحد غيره من أعيان ذلك الزمان. والنتيجة ؟ افلاس للخزينة و تجويع للناس و استغلال للرعيّة.
وقتها، كان الباي ووزيره أمام حلّ أوحد، الاقتراض من الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا وانقلترا، ولكن سوء التصرف في الأموال المقترضة والتبذير في رفاهية البلاط والحكّام جعل الخزينة فارغة على حالها الأسبق.
حينئذ قرّر البلاط الالتجاء إلى الشعب، ونهبه ما تبقّى له من الثروات وفي ربيع 1864 تم مضاعفة ضريبة المجبي من 36 ريال إلى 72 ريال، والمجبى ضريبة تسلّط على السكّان الذكور البالغين. وقد تقرر وقتها، فرض هذه الضريبة على سكان الأرياف والقبائل دون غيرهم، فمدن مثل تونس وسوسة وصفاقس والقيروان تم إعفائهم من هذه الزيادة، ولم يعلم –من أمر بهذا القرار- أنه بإجرائه هذا مهّد مباشرة لثورة 1864.
فسكّان القبائل الذين أنهكهم الفقر والجوع لم يرضوا أن تثقلهم ضريبة المجبى الجديدة، خاصة وأنهم كانوا مطالبين بضرائب أخرى كضريبة العشر والمكس والخروبة، إلخ.
فتنظّمت القبائل التي لطالما تناحرت فيما بينها، قبيلة ماجر وعلى رأسهم علي بن غذاهم يتلوها أولاد عيار و الفراشيش و جلاص بقيادة السبوعي بن محمد السبوعي ... جيش عرمرم لم تزدهم ضريبة المجبى إلا غلّا و طموحا في اسقاط حكم الباي فتمكنوا في ظرف وجيز من الدخول إلى عديد المدن وقتل أو طرد قيّادها، والثورة التي تزعّمها علي بن غذاهم أصبحت شرارتها تلتهم كل البلاد ما عدى العاصمة والتي كانت بدورها تعاني من شحّ في الجنود ومن عصيان للأوامر من قبل العسكر النظامي وانهزامهم في جلّ المعارك مادفع محمد الصادق باي بالاستعانة بأكثر من ألف جندي متقاعد ولكن الأوضاع على الميدان وفي الساحات آلت إلى الثوّار.
حينها أدركت العاصمة أنه ما من سبيل لدرء هذه الثورة بالقوّة وأن النّار أحيانا من الممكن أن تجابه بالماء فاستنبط حينها مصطفى خزندار خطته الماهرة لإخماد فتيل الثورة، وشرع في زرع الفتنة بين القبائل المتحالفة عبر التذكير بالصراعات الماضية تارة وعبر شراء قيادات القبائل طورا آخر، كما أن الباي أعلن إلغاء مضاعفة ضريبة المجبى وأنشأ فيلقا عسكريا ينشر هذا النبأ السعيد ويمنح الأمان لكل من يرضى بحد للعصيان.
إن الثورة التي قامت على المجبى وعرفت بثورة المجبى لا ضرورة في تواصلها إذا انتفى سببها، هكذا حدّث الحكّام وهذا ما أنصت له أغلب القبائل والقيادات الثائرة وهو ما دفع في الأخير إلى توقّف الثوّار وانطفاء لهيب الثورة.
لكن هذا لم يمنع الباي من معاقبة كل من سوّلت له نفسه عصيانه فأمر فيالقه العسكرية بمعاقبة "الخائنين" فلاحقهم وعرّضهم لقمع غير مسبوق، حتى أن المذابح والتعديّات والابتزازات التي ارتكبتها الحملة ظلت راسخة في أذهان الناس حتّى أواسط القرن العشرين، هكذا دوّنت كتب التاريخ.
وأواسط سنة 1866 وقع أسر زعيم الثورة علي بن غذاهم في تبرسق واقتيد مكبّلا إلى باردو، حيث وقع تعذيبه ثم إيداعه بكرّاكة حلق الوادي، حيث أمضى سنة واحدة في سجنه قبل أن يتوفاه الأجل سنة 1867.
هذا النصّ هو سرد سطحي وسريع لأحداث ثورة 1864، والمقصود منه إحياء فتيل التساؤلات عند القارئ التونسي كي يبحث ويتمعّن في تاريخ هذه الهبّة الشعبية على الحاكم، وكي يستقرأ تاريخ هذه اللحظة الفارقة، ويتفكّر في حركة الشعوب نحو التغير وينظر في أسبابها الظاهرة والعميقة، فالتاريخ في ظاهره لايزيد عن الإخبار وفي باطنه ن ظر وتحقيق. هذا إذا إخبارنا ولكم النظر والتحقيق.