ركّزت مختلف المنصات الإعلامية وصفحات مواقع التواصل الإجتماعي مؤخرًا على الجزء المتعلّق بإمكانية أن تشهد عدة مناطق من البلاد انقطاعات متواصلة للكهرباء خلال الأشهر القادمة في مداخلة الكاتب العام للجامعة العامة للكهرباء والغاز، عبد القادر الجلاصي، بتاريخ 14 ماي 2022. ولكن الأدهى والأمر في مداخلته كان توضيحه، أو بالأحرى اعترافه، بأن تونس تعتمد على 99 بالمائة في إنتاج الكهرباء من الغاز!
62 بالمائة من هذا الغاز مُتأتّ من الجزائر، جزء منه في إطار عقد بين تونس والجزائر وجزء آخر مقابل مرور الغاز الجزائري، أما البقية ففي شكل كميات إضافية خارج العقد والتي أشار مدير الكهرباء والانتقال الطاقي بوزارة الصناعة، بلحسن شيبوب، مؤخرًا في تصريح تلفزي عن وجود إشكال مع الجزائر على مستواها وعدم توفرها.
وفي حين يرى إداريو قطاع الطاقة وسياسيو تونس أن الحل يكمن في الدبلوماسية الاقتصادية مع الجزائر وتنظيم عمليات تحسيسية لترشيد الاستهلاك خلال الصائفة، يرجّح عدد من الخبراء أن تعمّق هذه الأزمة هو نتيجة تأخرنا الشديد في ميدان الطاقات البديلة، خاصة وأن تونس بلغت الحد الأقصى في استغلال قدرتها الإنتاجية من الغاز الطبيعي.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه اللحظة: لماذا كل هذا التأخر؟
"في تونس ماعناش الشمس والريح متع المغرب"
كانت هذه كلمات وزير الطاقة والمناجم الأسبق، منجي مرزوق، في تصريح قدمه على أمواج إذاعة شمس أف آم بتاريخ 14 جوان 2016 محاولًا تبرير عدم توجّه تونس نحو الاستثمار في الطاقات المتجددة على غرار المغرب وموريتانيا وغيرهما.
وتلقى هذا التصريح حملة من السخرية والتهكّم على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أشار العديدون إلى التوقعات السنوية لمصالح ومواقع الرصد الجوي بوصول درجات الحرارة إلى 50 درجة وأكثر خلال فصل الصيف في الجنوب التونسي وأشار آخرون إلى سخافة هذا التصريح والسياسات المعتمدة في مجال الطاقة عبر تدوينات من سبيل "في تونس لا عندنا لا ملح لا بترول لا ثروات باطنية، وكمل توا لا شمس ولا ريح."
يجدر بالذكر أنّه في حين تمثل مصادر الطاقة المتجددة قرابة ال30 بالمائة من الإنتاج العالمي للكهرباء، تساهم مصادر الطاقة المتجددة بتونس ب3 بالمائة فقط من الإنتاج الوطني للكهرباء. بدل أن نستثمر في هذا المجال، نخير أن ندفع قيمة فاتورة عمليات شراء تونس للغاز من سوناطراك الجزائرية التي "تقدر هذا العام بنحو مليار دولار، ولكنها قد تصل الى 1.5 مليار دولار في ظل الارتفاع الحاد للأسعار العالمية" حسب تصريح بلحسن شيبوب الشهر الفارط.
والمؤسف في هذه الوضعية التي وصلنا إليها في مجال الطاقة هو أنّ تونس أنجبت في ثلاثينات القرن الماضي نابغة في مجال الطاقة الذرية كان بإمكانه تمكين تونس من امتلاك وانتاج الطاقة النووية لتوفير الكهرباء منذ الستينات لولا مماطلة وتعجيز الدولة له.
"الجهاد لتحرير البلاد وتشريف العباد"
كان هذا عنوان أشهر مؤلفات عالم الذرة التونسي "البشير التركي" الذي كشف فيه عن العراقيل التي وضعت من قبل شخصيات معروفة، كان قد وصفهم "بالخونة المحليين" في طريقه نحو تمكين تونس من استغلال الطاقة النووية كطاقة سلمية تستفيد منها البلاد في إنتاج وتصدير الكهرباء، ناهيك عن التصدي لتصحّر الجنوب التونسي.
وصمم هذا العالم التونسي مشروعًا قادرًا على توفير مياه البحر المتوسّط في ولاية قابس لإنقاذ نصف تونس الجنوبي من التصحّر وتأثيرات المناخ القاسي عبر استخدام التّفجير النووي، إذ يمكّن المفاعل النووي من إنتاج الكهرباء وتحلية المياه المالحة في آن واحد، وهي فكرة غير مسبوقة في العالم في ذلك الوقت.
فكرة هذا المشروع تمثلت في تحويل السبخة الممتدة بالمنطقة إلى بحيرة في قلب الصحراء، تنتج 150 ألف متر مكعب من المياه العذبة يوميًا، وتوفر طاقة بقوة 75 ميغا واط بفضل المفاعل النووي. وحصل بشير التركي على تمويل كامل من الاتحاد السوفياتي لتحقيق هذه الفكرة، ولكن نظام الحبيب بورقيبة وقتها رفض السماح بتنفيذ هذا المشروع.
كان جزاء هذا العالم لمحاولته النهوض بمجالي العلم والطاقة ببلاده جملة من التضييقات والعراقيل السياسية في مساره العلمي، وعديد محاولات التصفية الجسدية أو الاغتيال في تونس والمغرب و فرنسا و السنغال.
ولكن ما حدث للبشير التركي وما ينهال علينا به السياسيون من تبريرات سخيفة وحلول أسخف لأزمات قطاع الطاقة لا يجب أن يقطع عنا الأمل. يبقى المجال للتحويل والاستثمار في الطاقات المتجددة متاحا وتبقى هذه تونس، بلد شباب ثار على نظام مستبدّ وقادر على الثورة والتغيير في هيكلة غير ناجعة في مجال الطاقة.