ما هي المماطلة أو التسويف أو ما يسمى Procrastination؟  ما معناها وكيف نتخلّص منها؟ وأيّ تأثير لها على صحتنا النفسية، وما هي جذورها؟  

لا يهم كثيرًا، فبالتأكيد ستماطل في قراءة المقال لمعرفة المعنى.  

جاء وصف المماطلة تاريخيًا في الأدب الفلسفي مع أرسطو وأفلاطون على أنّها ضعف الإرادة والتحكّم الذاتي والصراع ما بين 'ما الذي تفعله؟' و 'ما الذي ينبغي عليك فعله؟'  

أما علميًا فقد عرّف الباحثون المماطلة بأنّها التأخير الطوعي -أي بإرادتك- وغير الضروري من أجل بدء، أو إكمال المهام المخطّط تنفيذها في وقت ومدّة زمنية محدّدة، على الرغم من معرفة الشخص بوجود عواقب سلبية لعدم القيام بهذه المهام.  

دعونا نتخيّل الأمر وكأنّه معركة أو قتال بين نفسك الحالية ونفسك المستقبلية. فهي عبارة عن 'أنت في المستقبل' يجب أن تكون قد واجهت المهمّة المخطط لها. أمّا 'أنت في الحاضر' منغمس في فعل أشياء ليس لها علاقة بإنجاز المهمّة، وبالتالي فأنت الآن وهنا تضع على عاتق 'أنت في المستقبل' الكثير من الضغوطات مثل التوتّر وضيق الوقت وكره الذات وجلدها وهذا كلّه بسبب من ؟  

'أنت في الحاضر' سبّبت كل هذا. حسنًا لماذا لا تكترث الذات الحالية بالمستقبل؟  

هناك العديد من الدراسات العلمية والبحوث التي أجمعت أغلبها على أنّ المماطلين هم أشخاص قليلو التفكير والاهتمام بالمستقبل...أظهر البحث الذي أجراه دان جيلبرت -Dan Guilbert أستاذ علم النفس بجامعة هارفرد- أنّنا نعتمد على الحاضر للتنبؤ بما ستشعر به في المستقبل.

دعونا مثلًا نتخيّل لو أنّك ذاهب للسوبرماركت الآن للتسوّق من أجل إعداد الطعام الخاص بك لليوم. هل سيصدر منك نفس الشعور والحافز عندما تتسوّق وبطنك ممتلئة، مقارنة بتسوّقك وأنت جائع للعودة للمنزل مسرعًا لإعداد الطعام؟  

تكشف الدراسة والبحث الذي أجراه هال هيرشفيلد -عالم النفس الاجتماعي- عن الدور العصبي للدماغ والفجوة بين الذات الحالية والذات المستقبلية. 

تميل ذواتنا الحالية إلى اتخاذ القرارات المريحة على المدى القصير بحثًا عن لذّة سريعة، أو هربًا من قلق حتمي. فبالتالي عندما نفكّر في الغد نتحيّز للحاضر، بل ونتوهّم أن في الغد سيكون الشعور مماثلًا للحاضر، وتبدأ عملية التخدير الذاتي، والدوران في حلقة الوهم، حتى تحدث الصدمة عند الموعد الأخير للمهمّة.  

لمزيد فهم المماطلة وتغيير هذا السلوك علينا أن نعود إلى الجذور وطبائع هذه الصفة بشكل واضح حيث يوجد الكثير من اللغط والخلط في المفاهيم. فعلى عكس ما يعتقده أغلب الناس، 'المماطلة' ليس سببها مشكلة في تنظيم الوقت، أو استعراض المهام وتدوينها في ورقة ما بالأساس. لذلك سأستعرض بعض من الأسباب الرئيسة لهذا السلوك:  

• أوّلًا: غياب المعنى والدافع الداخلي الذي يحفّزك لفعل شيء ما. بالإضافة إلى عدم المثابرة على تحقيق هذا الفعل، فوقوفك في منتصف الطريق، سينتج عنه التعوّد على التراخي واللامبالاة، فتؤدي حتمًا للمماطلة حتّى في أهداف وأفعال مصيرية وحياتية أحيانًا.  

• ثانيًا: المماطل هو شخص يبحث دائمًا على ما يشتته، خاصة ما لا يتطلّب الكثير من المجهود والالتزام، مثل مشاهدة الأفلام أو حتّى تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي مثلما تفعل أنت الآن.  

• ثالثًا: من المماطلين من ليس له القدرة على التحكّم في المشاعر أو الذكاء العاطفي، حيث تجعل الشخص في حالة من الهياج العقلي وعدم الاستقرار. وهنا تأتي المشتّتات كمهرب لتنظيم مشاعرنا وعواطفنا، وتغييرها من دوامة الخوف من الفشل، إلى الغطس في بحر الدوبامين من الأنشطة الفارغة والمشتتة.  

• رابعًا: بعض الأشخاص المماطلين تسيطر عليهم سلوكيات منهزمة والتي يتحكم فيها مشاعر لا واعية، مثل عدم الثقة في النفس والضعف الذاتي، ومثل هذا الإنسان ذلك الذي يحارب نفسه.  

مثلًا قد يؤخّر الشخص التقدّم بورقة مهمّة لوظيفة عمل عمدًا، بينما هو مؤهّل لها، وعلى الرغم من علمه أنّها تمثّل فرصة عظيمة، إلّا أنّه يشعر أنّه لا يستحق أن يكون في مكان أفضل في هذه الحياة.  

• خامسًا: أظهرت بعض البحوث أنّ هناك ارتباطًا كبيرًا بين بعض الحالات المرضية، مثل الاكتئاب وفرط الحركة والوسواس القهري بالمماطلة.  

ما الفرق بين الشخص المماطل والشخص غير المماطل؟  

يوضّح أستاذ علم النفس في جامعة دي بول في شيكاجو في مقابلة له مع جمعية علم النفس الأمريكية ويقول: "غير المماطلين يتمتعون بهوّية شخصية أقوى من المماطلين، وهم أقل اهتمامًا بما يسمّى الحافز المجتمعي، أو رأي الآخرين فيهم - أي سؤال هل وكيف يحبنا الآخرون؟"  

وأيضًا يقول عالم النفس بيرس ستيل Piers Steel أنّ الشخص غير المماطل يميل أن يكون على درجة عالية من الوعي، وتتجلّى لديه صفات مثل الانضباط الذاتي، والمثابرة، والمسؤولية الشخصية. أمّا المماطلين فهم على درجة منخفضة من هذه الصفات.  

ما هو الحل؟  

إنّ المماطلة هي سلوك شائع يمرّ به الشخص في مراحل كثيرة في حياته، فيعتبر الوعي بالمشكلة، وعدم التسليم لها، ومحاولة فهمها، وفهم أسبابها، والبحث عن المعنى والهدف في كل فعل نقوم به، أولى الخطوات لتخطّي هذا السلوك.  

كذلك تقسيم الأشياء والمهمات المعقّدة والكبيرة إلى أفعال صغيرة، وبالتالي تزيد من إحساسك بالإنجاز والتحفيز بعد الانتهاء من كل فعل صغير. بالإضافة إلى تكوين روتين يوميّ فيه بعض من السلوكيات التي لها معنى، ولها دافع وحافز داخلك قد يساعدك على فهم ذاتك وجوانبك كلها...من خلال مراقبة الذات وتبدّلها، ومع كل فعل تقوم به ستجد ما يلائم ذاتك أنت.  

تجنّب قدر الإمكان ما يشتت انتباهك بداية من السوشيل ميديا، ثمّ عوّد نفسك على مكافأة ذاتك بوعي عند إتمام كل مهمّة. وفي الأخير تصالح وتصارح مع نفسك، وحفّزها على التطوّر. 

لأنّ في الحقيقة كل الأشخاص الذين عرفوا، ولم يحاولوا، لا يخدعون إلّا أنفسهم.